عرض مشاركة واحدة
بزناس
مزعوط خبير
المشاركات: 2,291
تاريخ التسجيل: Sep 2011
الدولة: مكان ما في صحراء المملكة العربية السعودية
بزناس غير متواجد حالياً  
قديم 2012-01-09, 09:46 AM
 
في زمن الضياع .. قصة قصيرة ..

محمد عبد الصمد الإدريسي


كل الطرق انسدت في وجهه، فغدا تائها في دروب الحياة هائما على وجهه،بعد أن أضناه البحث عن عمل يليق به أو يشرفه كما يقول. صحيح أنه كان بإمكانه أن ينخرط كغيره من أترابه في أوراش البناء أو النجارة أو غيرها. لكنه كان يأنف أن تمس يده شيئا من ذلك، وهو الذي أمضى سنوات لا يستهان بها في الدراسة والتحصيل، ولم يودع مدرجات الجامعة إلا بعد أن انتزع منها شهادة كان يأمل أن يرتقي بها سلالم الوظيفة التي يريد، فينقذ أسرته من بؤس الحياة ويخفف عن والده ما يكابده من أجل البحث عن لقمة العيش.
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، مضى على تخرجه من الجامعة ثلاث سنوات، وتلك الشهادة لم تف بالقصد، ولم تحقق المراد، فعاش ثلاث سنوات ينتظر الفرج، يتابع إعلانات الوظائف، ويراسل المؤسسات ويستجدي الغادي والرائح إلى أن أظلمت في عينيه الحياة، وصارت كل السبل بلا مخارج. كلما رأى شعاع أمل خطا نحوه، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وحده الضياع كان يجده أمامه. إلى أن لاح له بصيص من نور هناك، في الشمال، وبالضبط ما وراء البحر. رأى فيه المخرج والخلاص.
دخل المنزل بعد سمر مع أصحاب الحي، فسلم على والديه وإخوته، واحتضن أخاه الأصغر بين ذراعيه، ثم ارتقى درجات السلم وصعد إلى غرفته لا يلوي على شيء.غرفة متواضعة أهم ما فيها سرير نومه، وخزانة صغيرة بالية صنعها له أبوه من قبل عندما كان في مرحلة الطلب، فغدت كأنها من تراث العصور القديمة. فتح دفتي النافذة وارتمى على سريره تداعبه نسمات الصيف العليلة.جال ببصره في أركان الغرفة فما أن وقعت عيناه على الكتب المغبرة يعلوها التراب حتى عادت به الذكرى إلى أيام الطلب الأولى، حين كانت روح المعرفة والتعلم تملؤه. كيف تابع دراسته سنة بعد أخرى من غير رسوب وكيف ضحى والداه وكابدا من أجل إكمال دراسته وتوفير مستلزماتها، فكانت والدته تطوف على بيوت الجيران تبحث عن بيت يجود عليها بكتب قديمة، ويا لها من فرحة تلك عندما تستطيع جمع شتات الكتب البالية! فتنصحه بالمحافظة عليها حتى يستفيد منها إخوته من بعده. هاهو الآن قد تخطى المرحلة الجامعية ورجع من رحلته الدراسية بخفي حنين، ولم ير بعد ما يسره، ويسر أسرته. صحيح أن والده كان دائما يفخر به ويحضه على الاستزادة من طلب العلم ومواصلة دراسته، وكثيرا ما كان يردد عليه البيت الذي يحفظه وهو الذي بالكاد يعرف كتابة اسمه:
ما انتفع المرء بمثل علمه
وخيرُ ذخر المرء حُسن فعله
وهو ما شجعه على أن يصل إلى ما وصل إليه الآن. وصحيح أنه لم يسمع من والده ما يدل على أنه ضاق به ذرعا، لكن إلى متى يبقى بدون عمل، وإلى متى يظل منكس الرأس؟
- «هذا ليس قدري..بالتأكيد ليس قدري»
قالها وهو يطوّح بيده في السماء، وقطع عليه تفكيره طرقات خفيفة على باب غرفته، كانت أمه قد جاءته بكوب الشاي الساخن. قالت وهي تضعه أمامه:
- ها أنت عدت إلى حزنك وكآبتك يا ولدي؟
- نحن جيل الضياع والأحزان يا أماه!
- ربنا رحيم يا ولدي..رحمته وسعت كل شيئا
«ربنا رحيم».. «رحمته وسعت كل شيء»..»الله يقسم الأرزاق» كلمات طالما سمعها بل آمن بها... ألم يعد لها حضور في هذا الزمن؟ الله يقسم الأرزاق ومئات العاطلين أمام البرلمان تُكسر جماجمهم بالهراوات في سبيل رزق يحفظ وجودهم على وجه الأرض؟ «رحمته وسعت كل شيء» وأنا لم.. أستغفر الله .. أستغفر الله.. في غمرات الأسى والقلق تتولد فلسفات وأفكار ما أشبهها بالحق..ورفع يديه إلى السماء، ثم زفر زفرة استدعاها من أعماقه: «يا رب ضاقت.. والأمر لك..»
كان واضحا أن والديه سيقبلان بفكرة الهجرة، رغم قلقهما من ذلك لأنهما لم يرفضا له طلبا من قبل، كيف وهو في نظرهما المتعلم والواعي والمدبر أمره عن هدى وبصيرة، وكل ما يقف عائقا أمامه هو كيفية حصوله على الثمن الذي سيدفعه لمن يوصله إلى الضفة الأخرى! أسرته لا يكفيها دخل والده البسيط،وهي التي تحيا على التقشف وشظف العيش.لو قدر له الحصول على المال فهو من اليوم في أحسن حال، بل كل أسرته في أحسن الأحوال.
وسالت دمعتان ساخنتان على خديه وهو يرى والدته أمام «الصائغ» ينتزع القرط من أذنيها وهو يعلم جيدا أن مثل هذا القرط القديم لا يمكن أن تبيعه إلا لضيق معسر أو حاجة شديدة!
وضع القرط في ميزانه الحساس ثم اختطفه في لهفة وكأنه خائف من أن تتراجع عن رأيها فيخسر كنزه الثمين! وسلمها الثمن مع ابتسامة ماكرة، فدسته في صرتها ثم ودعت الصائغ وخرجت متباطئة كأنها قد ودعت جزءا من حياتها، أو فقدت تاريخها التليد!
وفي هذه الليلة لم يجلس للسمر مع الأصحاب، بل دخل البيت مبكرا، فجالس والديه وإخوته، وحكى لهم عن الشباب الراغبين في الهجرة الذين تعرف عليهم. ولحسن حظه فقد أتى في الوقت المناسب فلن ينتظر طويلا إذ الرحلة بعد غد فقط! لكنه كان يتفادى أن تقع عينه على والدته وكأنه مجرم ارتكب ذنبا لا يغتفر!
بعد غروب الشمس كان على الموعد المحدد، في شاطئ البحر، وظلال المساء تبسط أجنحتها على الكون. ولا يحطم سكون الليل إلا موجات البحر النشيطة، ولم يدر أطال الوقت أم قصر، حتى كان يقذف بنفسه مع الركاب في القارب، وقبل أن يضع رجله تذكر قرط والدته فسالت دمعتان ساخنتان على خديه وشعر بحرارة عارمة تعتريه.
- أسرعوا.. أسرعوا.. يا شباب.
كان الكل واجما لا يتحرك وكأنهم أشباح في ظلام الليل، أما هو فكان جسده على القارب فوق الماء، وذهنه بين أهله وأسرته. يتجول في البيت ويُشَخّص ملامح والدته وإخوته أمامه ويترنم بضحكة أخيه الأصغر ويتذكر غرفته و كتبه المغبرة، ثم ألقى نظرة أمامه على امتداد البحر، محاولا استكشاف المجهول..
لكن موجة عاتية كانت قد غيبته عن الوجود!
__________________

Be your Self No Matter what they Say
رد مع اقتباس