رمضان البيضاء...رمضان اصطناعي !
أن تقضي الليل خلال شهر رمضان بالدار البيضاء فكأنك تقضيه وسط فتنة لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. وتسأل نفسك وأنت في هذه المدينة الغارقة في التيه والمتسابقة مع الزمن: «هل يبقى لأهل البيضاء وقت للنوم؟»، فقط لأنه في البيضاء لا وقت للشوارع كي تفرغ ولا للمتاجر كي تغلق ولا للمقاهي كي تجمع كراسيها ولا للمساجد متسع لمصلين جدد أو متأخرين.
غريب كيف أنه حتى في وقت الإفطار لا تزال مدينة مرسى آنفا تعج بالحركة، فالزائر والغريب قد يشعر بأن أهل البيضاء سيراودهم حزن كبير إذا ما غادروا الشارع، ذلك أن الفضاء العام بالمدينة تحول إلى بيت كبير لا أحد فيه يريد مغادرته تحت أي طائل، فرواد المقاهي يتسابقون لأخذ أمكنتهم في الصفوف الأولى لشوارع آنفا والمعاريف وبوركًون وعين الذياب، ورواد المساجد يصطفون منذ صلاة العصر حتى يضمنوا لأنفسهم مكانا أقرب إلى المحراب في صلاتي المغرب والعشاء.
فتنة الدار البيضاء، التي تحلق في سمائها هذه الأيام ملائكة الرحمان، تجعل سكانها وزوارها يتجاورون مع العجلة كما تجاور العين حاجبها، الكل يريد أن يصل أولا إلى بيته، والكل يريد أن يفطر قبل غيره، والكل يريد أن يصلي أقرب من غيره إلى الإمام عمر القزابري، والكل يريد أن يشتري «كرواصة فُوري» قبل أن تنفد من رفوف متاجر الحلويات، والكل يريد أن يدخن سيجارته الأولى وهو مستلق بجسده على كرسي في أفخم مقهى بشارع المسيرة الخضراء بعد الإفطار.
رمضان في الدار البيضاء أصبح شهرا اصطناعيا بامتياز، لا طعم فيه للروحانيات ولا لسكون واعتكاف الجسد والروح،... المدينة، التي كانت توصف بالعمالية، أصبحت عبارة عن منصة تتحرك على مسرحها أجساد الأغنياء والمتشبه فيهم مع الفقراء والبؤساء،... عملة البيضاء التي يتسابق الجميع على صرفها هي العجلة والتيه، لا أحد يلتفت إلى غيره ولا حتى إلى نفسه، أما شهر رمضان فقد أفرغ في الدار البيضاء من مزاياه الدينية والصحية والنفسية والاجتماعية، وأصبح ساكن المدينة كما في مثلنا الشعبي «وكلو ما يشبع، كلموا ما يسمع، سخرو ما ينفع».
الناس هنا مصابون بداء الازدحام والفوضى...، ففي المساجد يترك المصلون خشوعهم نتهم ويتسابقون للظفر بمكان في الصفوف الأمامية، ومنهم من يحسن التدافع بالأكتاف والأرجل حتى خلال الصلاة، أما في الشوارع فكأن الناس هنا لم يسبق لهم قط أن اقتنوا ألبسة، فتراهم يشترون في ليالي رمضان أرقى وأغلى الملابس من أشهر المتاجر والمراكز التجارية كما لو أنهم يشترون «الزريعة الكحلة»، فالكل يتأبط أكياس أكبر ماركات الملابس والعطور والمجوهرات الثمينة، والكل يصطف لساعات قبل أن تصله «النوبة» أمام صندوق الأداء، في وقت تكتظ فيه الشوارع بمحتاجين لم يجدوا تمرة يابسة «لفريق الصيام»، وفي وقت لا أحد فيه يسأل عن كيف يفطر مغاربة الخيريات ودور العجزة وأطفال الشوارع والمرضى والمساجين،... هي ذي البيضاء «ما خص القرد غير الورد».
لقد فقدت الدار البيضاء هويتها كأكبر مدينة مغربية، هناك من يريد أن يلبسها ثوب لوس أنجلس و لندن وباريس،.. دون أن تزعجه أو تخجله قبعة دور الصفيح والفقر والبؤس والأمية والتسول على رأسها...، الناس بها فقدوا البوصلة وتبعوا اتجاهات الريح الجديدة، وكل الأشياء المزدحمة هي بالضرورة الأماكن التي على جسدك التعود على الحياة فيها،... بسطاء البيضاء الذين أسكنوهم داخل علب الإسمنت في الأطراف البعيدة ينظرون إلى مدينتهم وقد تحولت إلى منديل،...الكل يريد أن يستعمله للمسح، لكن المدينة التي تجمع على أرضها أكبر تجمع بشري للمغاربة تقول وهي في قمة ازدحامها: «ما طحنوه حتى عياو من تغزازو».
__________________
The road never ends ... only our vision does
2012-08-07, 12:34 PM
المواضيع المتشابهه للموضوع: رمضان البيضاء...رمضان اصطناعي !
العرض العادي
الدرهم المغربي مقابل عملات الخليج