فغض الطرف انك من نمير
فلا كعب بلغت و لا كلاب
هذا البيت لجرير و هو جرير بن عطية الكلبي اليربوعي التميمي (33 هـ - 110 هـ/ 653 - 728 م) شاعر من بني كليب بن يربوع من قبيلة بني تميم وهي قبيلة في نجد، هجى به الشاعر الراعي النميري و هناك اجماع او شبه اجماع بين النقاد على انه اهجى بيت قالته العرب
فما قصته ؟ و من هو الراعي النميري ؟
الراعي النميري : ان اول ما تبادر الى ذهني ان الراعي النميري هذا هو من الرعاع و من افناء الشعراء لكن عندما تعمقت في البحث عنه وجدته من وجهاء قومه و عليتهم و كانوا يقدمونه في شؤنهم لانه صاحب نسب فيهم و له حجة و لسان فصيح و كان يفد على الملوك و الامراء كما انه كان يلقب بشاعر مضر لقوة شعره و هو
عُبَيد بن حُصين بن معاوية بن جندل، النميري، و كنيته أبو جندل. شاعر من فحول الشعراء المحدثين، كان من جلّة قومه، ولقب بالراعي لكثرة وصفه الإبل وكان بنو نمير أهل بيتٍ وسؤدد. وقيل: كان راعَي إبلٍ من أهل بادية البصرة.
و تعود قصة القصيدة الى ان الراعي النميري قدم الى البصرة و نزل ضيفا عند ابن عم له يدعى عرادة النميري و كان عرادة هذا من ندماء الفرزدق و كان يفضل الفرزدق على جرير
واتخذ عرادة النميري – نديم الفرزدق – طعاما و شرابا و دعا إليه الراعي حين قدومه البصرة ، و جلس يؤاكله و يشاربه ، و في خلال ذلك قال عرادة النميري :
" يا أبا جندل ، انك من شعراء الناس ، أمرك ضخم بينهم ، فقل شعرا تفضل به الفرزدق على جرير!"
فامتنع الراعي بادئ الأمر ، غير أن صاحبه ما زال يزين له ذلك حتى قال (عبيد) :
يا صاحبي دنا الأصيل فسيرا ،
غلب الفرزدق في الهجاء جريرا
فطار عرادة لذلك فرحا ، و عدا بهذا الشعر إلى الفرزدق و أنشده إياه . فترامى الخبر بعد أيام إلى جرير فتحسب أنه مغلب للفرزدق ، و قد شهد بذلك عبيد شاعر مضر و ذو سنها .
ولقي جرير عبيد بن حصين الراعي وهو راكب على بغلته في المربد ، و هو سوق كسوق عكاظ في الجاهلية فقال له:
" ( يا أبا جندل ، إنك شيخ مضر و شاعرها ، وقد أتى بي إليك أني و ابن عمي نستب صباح مساء ، و ما عليك غلبة المغلوب ، و لا لك غلبة الغالب . فإما أن تدعني و صاحبي ، و يكفيك إذا ذكرنا أن تقول : كلاهما شاعر كريم . و لا تحتمل مني و لا منه لائمة، و إما أن يكون وجه منك إلي إن تغلبني عليه لمدحي قومك و ذبي عنهم ، و حطبي في حبلهم )".
وبينما هما واقفان ، إذ أقبل جندل ابن عبيد راكباً بغلته ، فسأل عن محدث أبيه فلما علم أنه جرير رفع عصاً كانت في يده و ضرب عجز بغلة أبيه قائلا :" لا أراك يا أبتاه واقفاً على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شراً أو ترجو منه خيراً !" .
فاندفعت البغلة مسرعة و قد رمحت جريراً فسقطت قلنسوته سقطة مشئومة ، و تبعها هو إلى الأرض، فأخد قلنسوته يمسحها وهو يقول :
أما والله لأثقلّن رواحلك .
غضب جريرو هجائه بني نُمير
ثم إنصرف إلى بيته و نادى حسين راويته الذي يروي عنه و قال له :" زد في دهن سراجك الليلة وكثِّر الألواح وجلس.
قال : حسين - أجل فعلام عولت ؟
قال جرير : -" أما والله لأوقرنَّ رواحله بما يثقلها خزياً ينقلب به إلى أهله ، و لتكونن قصيدتي فيهم دمَّاغة فاضحة ، تسير مع الدهر و تطويه ، و لألحقن بني نمير بجمرتي العرب الخامدتين" (هامش: جمرات العرب الثلاث : (بنو الحارث بن كعب ) و قد خمدت بمحالفتها مذحج ، و ( بنو ضبة بن أد) و قد خمدت بمحالفتها الرباب ، و (بنو نمير) و قد خمدت بعد هذه الليلة بقصيدة جرير ) .
فقال تلك الليلة قصيدته المشهورة و سمّاها الدّامغة ، كان مطلعها :
أعد الله للشعراء مني ******* صواعق يخضعون لها الرقابا
أنا البازي المدل علي نمير *** اتحت من السماء لها انصبابا
إذا علقت مخالبه بقرن ****** اصاب القلب أو هتك الحجابا
تري الطير العتاق تظل منه ****** جوانح للكلاكل ان تصابا
فلا صلي الإله علي نمير ****** ولا سقيت قبورهم السحابا
ولو وزنت حلوم بني نمير ****** علي الميزان ما بلغت ذبابا
ستهدم حائطي قرماء مني ****** قواف لا اريد بها عتابا
أعد لهم مواسم حاميات ***** فيشفي حر شعلتها الجرابا
فغض الطرف انك من نمير****** فلا كعب بلغت ولا كلابا
أتعدل دمنة قلت وخبثت ******* إلي فرعين قد كثرا وطابا
اذا غضبت عليك بنو تميم **** حسبت الناس كلهم غضابا
لنا البطحاء تفعمها السواقي ** ولم يكن سيل أوديتي شعابا
ستعلم من اعز حمي بنجد ***** وأعضمنا بغائرها هضابا
شياطين البلاد يخفن زأري ***** وحية أريحاء لي استجابا
اليك اليك عبد بني نمير ******** ولما تقتدح مني شهابا
وهي قصيدة تتكون من97 بيت من الشعر، فأتي سوق المربد بعد أن احتل الناس مراكزهم واسرج ناقته عند مجلس الفرزدق والراعي النميري وألقي قصيدته,وأطلق عليها الدامغة.
فبلغ المكان فقال بصوت عال سمعه كل من كان هناك :
- "يا غلام ، قل لعبيد أبعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق ؟ أما و الذي نفس جرير بيده لترجعن إليهم بمَيْرٍ يسوءهن و لا يسرهن . و البيت الحرام(*) إن لكم لمعاد سوء و ذلة و لأوقرنَّ رواحلكم بما يثقلها خزياً و عارا" .
قال قوله هذا و الأعناق مشرئبة إليه . ثم قصد صاحباً له ، قريباً مجلسه من أبي جندل ، فأخذ بتلابيب الراعي و قال :"- إنكم لن تعودوا شم الأنوف جحاجح بين العرب بعد الساعة ...".
و في تلك اللحظة لم يكن الجالس يسمع إلا وجيباً و همساً ،ثم تركه و وقف منشداً قصيدته :
أقلي اللوم عازل و العتابا و قولي إن أصبت : لقد أصابا
أما الفرزدق فقد كان يصغي إلى جرير بكل جوارحه ، لعلمه بإقذاعه إن هجا ، و انطلق جرير يقول ، و الناس آذان تصغي إليه حتى بلغ قوله :
أجندل ما تقول بنو نمير ......
فقال : يقولون شراً أتيتنا ، فبئس و الله ما كسبنا قومنا ، و لما انتهى إلى قوله:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت و لا كلابا
أقبل الفرزدق على راويته يقول : غضَّه و الله ، فلا يجيبه ، و لا يفلح بعدها أبداً.
و قال عبيد : أخزيتَهم ، أخزاك الله آخر الدهر
و ظل الفرزدق صامتاً حتى إذا انتهى جرير من إنشاد القصيدة ذهب لا يلوي على شئ . أما راعي الإبل فقد غض طرفه – كما شاء جرير – و صبر و ابنه على ما يسمعان ، حتى إذا فرغ جرير ذهب الراعي إلى قومه يقول :
-" ركابكم ركابكم ، فليس لكم هاهنا مقام ، فضحكم والله جرير ".
فلم يرَ الناظر ساعتئذ إلا وجوهاً ممتقعة الألوان ، و لم يسمع إلا ضوضاء الرحيل ، و قالوا له : "هذا شؤمك و شؤم ابنك علينا" ، فقال : كلا يا قوم لست شؤماً عليكم و ليس ابني كذلك ، و إنما جرير شؤم على الناس أجمعين .
منقول
__________________
لا تأسـفن لغـدر الـزمان لـطالمـا
رقـصـت عـلـى جـثـث الأســود كـلاب
لا تحسبن الكلاب تعلو برقصها
تظل الأسود أسود و الكلاب كلاب