اصطحبت اصغر ابنائي والذي لم يتجاوز الخامسة والنصف من عمره وركبنا السيارة متوجهين الى احد الجوامع في حينا ، لأداء صلاة العشاء ، ولما اقتربنا من المسجد الذي قصدته قال لي الصغير ، لا اريد أن أصلي في هذا المسجد اريدك ان تذهب بنا الى مسجد السرور – وهو مسجد جامع في الحي ايضا – فسألته : لماذا ؟ قال : لأن امام مسجد السرور يدعو لسوريا في الصلاة وهذا لا يدعو..!
فحرفت مباشرة مقود السيارة متوجها الى مسجد السرور، متعجبا ومتعلما درسا من طفلي الصغير الذي لم يصل سن التمييز ، تعلمت درسا في أنه حتى الطفل غير المميز أحيانا يستطيع ان يحمل هم أمته ويتفاعل مع قضاياها الضخمة ، وذلك حين تصفو الفطرة ويستقيم التوجيه ، في حين يتنصل من قضاياها الكبار ويتخاذل عنها بل يخذلها من بيدهم القرار ، ومن حملوا امانة العلم والبلاغ ونصرة المظلومين ، حين تسيطر الأنانية والمصالح الآنية الضيقة على النفوس، والهوى واعوجاج الفكر والمفاهيم ، حين يغشى القلوب الران ويصبح الإيمان فيه نظر.
شتان بين قلوب توجعها انات المضطهدين ، وصراخ الثكالى والمنكوبين ، وقلوب كأنما قدت من صخر ، لاتجد الرحمة اليها سبيلا .
شتان بين نفس تقع أمام ناظري صاحبها الحوادث ، وتلامس مسامعه صرخات المظلومين ، فلا يئن لمتألم ، ولا يتوجع لمستصرخ ، ولا يحن لبائس ، ونفوس أخرى تفت كبودها مشاهد الدماء ، وصور الجثث للأبرياء ، وتصك مسامعها صرخات العذارى ، والصبايا اليتم.
فرق بين عالم أوداعية أوأي إنسان شريف يبكي ويستصرخ العالم لنجدة المستضعفين واغاثة المنكوبين ، وبين اولئك الشبيحة المعممين ، العلماء المجرمين ، المعممين بعمائم الفجور ، العملاء لكل طاغية ، الأحذية لكل جبار ، الذين لا تتحفز شفقتهم أو تتألم نفوسهم لهول ما ترى من قتل وتشريد وإبادة ، لا يحرك مشاعرها مشهد طفل قتيل أو رضيع ذبيح أو امرأة ثكلى ، لا تؤثر فيها دمعات الأيتام والأرامل والخائفين ، ولا مشاهد جموع المشردين والهاربين من نيران القصف وجحيم الحرب وسكاكين الإبادة الجماعية ، يالله العجب كيف تمر على مسامعهم أخبار قتل ستة وعشرون طفلا وواحد وعشرون امرأة واغتصاب ستة عشر فتاة في يوم واحد فقط في حمص وعلى ايدي الشبيحة ، ثم لا تسمع لهم ولو حتى كلمة استنكار لهذه المجزرة الرهيبة ، كيف يشاهدون عشرات الجثث المشوهة والمحروقة في شوارع كرم الزيتون في حمص ، ثم لايحرك ذلك ساكنا في وجدانهم ، الم يشاهدوا صورة ذلك الرضيع الذي تفحمت جثته وقد أحرق حيا ؟ ولكن ماذا تنتظر من قساة القلوب غلاظ الأكباد ، الذين حكموا على انفسهم بالذلة وعلى مجتمعهم بالحطة ؟
ماذا تنتظر ممن باعوا ضمائرهم وخانوا أمانة العلم ودنسوا بالأطماع محياه ؟
ولـو أن أهل العلمِ صانوه صانَهُم ولـو عَـظَّمُوه في النفوسِ iiلَعُظِّما
ولـكن أهـانوه فـهانوا ودَنَّـسُوا مُـحَيَّاه بـالأطماعِ حـتى iiتَـجهَّما
فرق بين اعلام لا يمل كثرة الحديث عن سوريا وأرض الشام وما بها من جراح وآلام ، ويرى أنها اليوم نقطة ارتكاز في ميدان الصراع بين الحق والباطل ، وقضيتها حديث القضايا الإسلامية ، وساحتها محطة امتحان وكشف لقوة المسلمين وغيرتهم على أوطانهم وحرماتهم ، ويقف مع المظلوم ضد الظالم ويشخص المصاب تشخيصا بعيدا عن المزايدات ، بعيدا عن خدمة الأغراض السياسية المقيته، وبين إعلام يغرد في واد سحيق بعيدا عن كل حدث منفصل عن كل قضية من قضايا الأمة ، وآخر يشوه الحقائق ويقف في صف الباطل ، ويتخندق في خندقه ، وثالث يشيع الفساد في الأمة وينشر الرذيله وتغزوا سمومه كل بيت فهو أشد فتكا من الصواريخ والدبابات والمدافع والطائرات ، ورابع ساوى بين الجزار والضحية والظالم والمظلوم والقاتل والمقتول ......
فرق بين مسجد يتناول الإمام في خطبة الجمعة مصاب اخوته في الشام ، يشرح قضيتهم ، ينتصر لها ، يوضحها ، يجلي الغبش عنها ، وفي صلاته يقنت لأجل إخوته يدعو بدعاء مخلص صادق ، وبين مسجد آخر إمامه يغرد خارج السرب ، فليس لقضية اهل الشام خانة في اهتماماته ، وليس لها نصيب من خطبه أو دعائه ...فهل مثل هذا يجهل أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخص المستضعفين بالدعاء ، و يسمي بعضَهم بأسمائهم ، و يدعوا بالهلاك على أعدائهم ، كما في الصحيح عن أبي هريرة و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنّه كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول : ( اللهم نجِّ عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج الوليد بن الوليد ، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف ) .
عندما تختزل قضية كل شعب من شعوب المسلمين في محيطه الضيق ، ويترك كل شعب يواجه مصيره لوحده ، وتشيع روح الأنانية بين المسلمين ، وينفصل كل عضو عن جسده ، ويعتقد كل بلد أنه بمنأى عن الأخطار ، عندها على كل ان ينتظر دوره ، خرج أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته ، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته ) ، وخرج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) ، وخرج البزار من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره الله في الدنيا والآخرة) \" .
التبعة على المسلمين اليوم كبيرة والخطر جسيم والخطب جلل ، والجرح اليوم بلاد الشام ، والدم النازف دم أهله ، الذين قال فيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم :\" إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ ، فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ ، وَلَا يَزَالُ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ \" .قال الترمذي :حسن صحيح
اللهم نج اخوتنا في الشام واجعل لهم مما هم فيه فرجا ومخرجا ، اللهم ثبتهم وأفرغ عليهم صبرا وانصرهم على القوم الظالمين.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد:
جميل أن تدخل السرور على قلوب الآخرين إذا احتاجوا لمساعده وتكفيك دعوة صادقة من شخص محتاج يسعدك الله بها .. وكما في الحديث (وخير الناس أنفعهم للناس )عندما تساعد إنسان على قضاء حاجته فانه يشعر بالأخوة والمحبة فيما بينكم وقد قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)سعادة لا تضاهيها سعادة عندما نكون سبب في سعادة الآخرين قمة السعادة وقمة الفرح أن تكون مصدر فرح للآخرين ... الأجر من الله والتوفيق في الدنيا ..قال صلى الله عليه وسلم{ (إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن, وأن يفرِّج عنه غمًا, أو يقضي عنه دينًا, أو يطعمه من جوع}و سُئِلَ الإمام مالك : "أي الأعمال تحب ؟" فقال: "إدخال السرور على المسلمين، وأنا نَذَرتُ نفسي أُفرِج كُرُبات المسلمين"
فقط اخلص النية ستأتيك المثوبة من عند الله تعالى...ويروى أن ابن عباس- رضي الله عنه- كان معتكفًا في المسجد النبوي، فجاءه رجل يستعين به على حاجة له فخرج معه فقالوا له كيف تخرج من المعتكف فقال:لأن أخرج في حاجة أخي خيراً لي من أن أعتكف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً.
فأرجوا أن نحرص عليها وحتى إن لم يكن صاحب الحاجة مقدراً لما تفعل فقط اخلص هذه المساعدة لله واظفر بالأجر العظيم عند الله عز وجل..كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم ، فلما استُخلف قالت جارية منهم :الآن لا يحلبها ، فقال أبو بكر :بلى وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعاهد بعض الأرامل فيسقي لهن الماء بالليل .ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة . فدخل إليها طلحة نهارا فإذا عجوزا عمياء مقعدة ، فسألها :ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت :هذا له منذ كذا وكذا
يتعاهدني ، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى .فقال طلحة :ثكلتك أمك يا طلحة عثرات عمر تتبع ؟!يقول احد الشباب:يعلم ربي الذي يشهد علي أني أحس بسعادة غامرة عندما أساعد أحد وهو يدري أو لا يدري ولكن أُفضل انه لا يدري لكن يسعدني أن أرى السعادة غامرة على وجهه..قال جعفر بن محمد الصادق رحمه الله:
لقضاء حاجة امرئ مؤمن أحب إلى الله تعالى من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مائة ألف.
يقول الشاعر:
وأفضل الناس ما بين الورى رجل . . . . . تقضى على يده للناس حاجاتُ
تقول إحدى الأخوات:دائماً أتمنى أن أساعد الغير وأقضي حوائجهم لأن هذا العمل يريحني ويسعدني ويبعد عني الأمراض النفسية,ولكن أصدم بردات فعل البعض مؤسف أن تنتظر كلمة شكر من أحدهم ولا تجدها ..ولكن لابد أن نفعل الخير فقط لأننا نقتدي بنبينا ويجب علينا أن ننتظر أجور الآخرة من الله تعالى..قال مجاهد :صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان هو يخدمني أكثر.فساعد الناس وأقضي حوائجهم لطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى ..لا تسعى لكلمة شكرًا من الناس ومثل ما قال المثل (افعل خير وارميه في البحر )فهنيئاً لمن أدخل السرور على قلب مؤمن طفلاً يتيماً كان أو شيخاً كبيراً أو امرأة أرمله أو أي فعل من أفعال الخير وتسهيل أمور الناس والتخفيف عن ألآمهم وعدم تعقيد أمورهم..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سرّ مؤمناً فقد سرّني ، ومن سرّني فقد سرّ الله).فعلى العاقل أن يستعين على قضاء حاجة نفسه بالسعي في قضاء حاجات المسلمين، فإنك إذا سعيت في قضاء حاجات المسلمين سعى الله نفسه في قضاء حاجتك.فأي هما خير لك؟وبهذا يحصل ترابط المجتمع و تكاتفه و الارتقاء به إلى أعلى المراتب, يسود فيه ألألفه والرحمة فالكبير يقوم بواجبه تجاه الصغير والقوي يقضي حاجة الضعيف والغني يعطف على الفقير ، يقول احد الشباب عن تجربة شخصية له: ( هناك شخص عندنا في الجامعة من الدفعة السابقة لنا قام بتصوير إحدى المذكرات لجميع طلاب دفعتنا من حسابه الخاص ،، فكان لها اثر عظيم في أنفس الطلاب حيث قاموا بالدعاء له في ظهر الغيب )قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم . . . . . .فطالما استعبد الإنسان إحسان
فإن أردت أن يسهل الله قضاء حوائجك فأعن الناس على قضاء حوائجهم ، فالجزاء من جنس العمل,علمتُ بلْ أي قنتُ أن مَن مدّ يدَهُ لِـيُساعد الناسَ ثمّ احتسبَ أجرهُ ..هيّأ الله له مَن يُعينَهُ وَيسدّ فُرجَتَهُ ,يقول أحد الإخوة:وقد وجدت والله أثر مساعدة الناس على حياتي من تيسير الله سبحانه لجميع أموري ولقد سمعت حديث بما معناه أن أسرع الناس مرورا على الصراط أناس تقضى حوائج الناس على أي دينهم ,وهو من باب المسارعة إلى فعل الخير والمسابقة فيه كما قال الله تعالى: { فاستبقوا الخيرات }.قال الداراني أني لأضع اللقمة في فم أخي فأجد طعمها في فمي..فيمكن أن تنجو من النار وتدخل الجنة بفرج كربة صغيرة لا يلقى لها بال _فاغتنم الفرص قبل أن يغتنمها غيرك .
سيادة الشريعة: من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة [1]
(1)
لعلّ من حكمة العليم الحكيم : أنَّ ثمة أخطاء ترتكب ، أو شبهات تقذف في بحر الشريعة ، فتكون سبباً في الانتباه إلى المبادئ والأصول كلّما ابتعد النّاس عنها، أو خفت ذكرها بينهم ..
وكم من مسائل أثيرت على خلاف الأصول والمبادئ ، كان أثرها ظاهرا في إشعال جذوة الأصول وتجديد قوة المبادئ في النفوس ، وتحريك حالة التبلّد التي قد تصيب الحراك الفكري ، الذي يُنتظر منه الإصلاح والتصحيح . وقد دونتُ أمثلة عصرية لذلك في موضع آخر .. نعم كان لها ضحايا .. لكنهم قلَّة في جانب ما يُحقِّقُه الانتباه للأصول وحمايتها من نجاة واسعة ، وبقاء الحق متوارثا بصفاء ، ولو خلى الزمان ممن يطبقه .
ولذلك لا أجدني قلقاً حين يثار شيءُ من هذا القبيل ، لا حباً لإثارته – معاذ الله – ولكن طمعاً في نفع مآله فيما يحدثه من حراك نافع ، إذا ما هبّت له القلوب الحيّة ، فأحيته في النّاس على جميع المستويات .
يقول جوستاف لوبون : " إنَّ الأخطاء التي تُظنّ من الحقائق - تلعب في دفع عجلة التاريخ دوراً أكبر من الدور الذي تلعبه الحقائق ذاتها " [2].
ومن ذلك موضوعات تثار - عاطفة حيناً ، ومناكفة أحياناً - دون تمحيص ودراسة ، غاية ما توصف به أنَّها : أفكار وحديث نفس عارض ، وقد يصحبه – في أحسن الأحوال- استدلال لا يخلو من سطحية ، في سياق تقعّر – لا تعمّق - في الطرح ، وتكلف في التقسيم ؛ تسوق من ينساق لها بعيداً عن الأصول والثوابت ، ومن ثمّ تقذف أمامه شبهة لتوهِمه أنَّها قدمت له شيئاً ذا بال !
والشبهات التي تنطلق ممن لديه ثقافة إسلامية ، لا تكاد تخلو من تلبيس – قد لا يكون مقصودا - بذكر آية أو حديث أو أثر .. ومن هنا ينبغي التعامل معها بمنهج التعامل مع الشبهات ، ومن أصول ذلك : الردّ إلى المحكمات ، وهو ما لخصته في عنوان هذه المقالة المقتضبة ..
وقبل بضعة عقود ، طُرحت في العالم الإسلامي بضعة أفكار ، ورميت في بحره الطهور الطاهر بضعة أحجار ، كان من بينها : فكرة غربية غريبة يعبّر عنها بمبدأ أو نظرية (سيادة الأمَّة) ؛ زُعِم أنَّها من الإسلام ، وليست منه في شيءٍ !
وقد تصدَّى لتفنيد هذه الشبهة آنذاك وبعده ، عددٌ من علماء الشريعة ، وأهل السياسة من عربٍ وعجم ، وشرق وغرب ، وأساتذة قانون من أهل الإسلام ؛ في عشرات المصادر ، وما لا أحصي من المراجع ، و المقالات .
وقد بيّن أستاذ أساتذتنا في القانون الدستوري الدكتور/عبد الحميد متولي رحمه الله وعفى عنه ، أنَّ جرثومة تسلل تلك الأفكار تكمن في: نزعة " التقليد لدول الغرب (ونحن إنما نعني بداهة بوجه خاص دوله الكبرى) وذلك فيما يتعلق بالمبادئ أو النظريات والمذاهب والأنظمة الدستورية ( أو السياسية) "[3]؛ وبيّن أنَّهم يقلّدون في الظواهر، دون أن يعرفوا الحقائق؛ كما سأشير إن شاء الله.
وهذه الجرثومة عينها ، هي التي وصفها (شيخ الإسلام) مصطفى صبري رحمه الله بالتطفَّل للأمم ، الذي يورث الوهن في العقيدة !
(2)
وإذا ما عدنا إلى أصل الموضوع ، ابتغاء ردّ ومحاكمة مفهوم السيادة إلى الكتاب والسنّة ؛ فإنَّ مما ينبغي بيانه بين يدي ذلك : التفريق بين مسألتين : الأولى : معنى السيادة . والثانية : نظريات السيادة . وفي كلِّ منها مؤلفات عديدة ، ودراسات كثيرة . غير أنَّ الذي يعنينا منها هنا ، هو الأول ، أعني : معنى السيادة .
فما معنى السيادة ؟ وما الموقف الشرعي من معناها ؟
وقبل الجواب على هذا السؤال ينبغي –أيضاً- أن نفرق بين مصطلحين دارجين[4] :
الأول : سيادة الدولة ؛ و الثاني : السيادة في الدولة .
فسيادة الدولة : صفة تنفرد بها السلطة السياسية في نشاطها الداخلي بحيث تكون آمرة على الأفراد والجماعات ؛ والخارجي بحيث تدير علائقها الخارجية دون خضوع لإرادة دولة أخرى، وإن التزمت المواثيق الدولية فبالتزامها . وهذا ظاهر؛ فلكل دولة حرية في ممارسة سلطاتها وعلاقاتها . وليست هذه محل الحديث هنا .
وأمَّا السيادة في الدولة : فهي التي تعنينا ، وهي محل الحديث في موضوعنا .
وأول من استخدم مصطلح السيادة هذه في الفكر السياسي الأجنبي المعاصر ، هو المفكّر الفرنسي جان بودان Jean Bodin [5] . فقد ألف كتاباً بعنوان : "ستة كتب عن الجمهورية" نشره عام1576م ، عرّف فيه السيادة بأنَّها : " سلطة عليا على المواطنين والرعايا لا يحدّها القانون " .
وفي توضيحه لمعنى السيادة ، فرّق بودان بين السيد (صاحب السيادة) وبين الحاكم ؛ " فالسيد أو صاحب السيادة ، هو من كانت سلطته دائمة . أمَّا الحاكم فسلطته مؤقتة ؛ ولذلك فلا يمكن وصفه بأنَّه صاحب السيادة ؛ وإنَّما هو مجرد أمين عليها " [6].
ومن خصائص السيادة لديه : أنَّها مطلقة ، لا تخضع للقانون . وأنَّها تُمكِّن سلطة التقنين من وضع القوانين ، دون موافقة الرعايا [7].
ومن خصائصها : أنَّه لا يمكن أن يفرض عليها أيّ إرادة من قبل إرادة أخرى[8] .
وممن تحدث عن حقيقة معنى السيادة العميد دوجي Duguit فيما عُرف بالقانون الأعلى وسيادة القاعدة القانونية الأعلى . حيث بيّن أنَّها سلطة حاكمة للسلطات . وقد أفاد منه د. عبد الحميد حيث أشار إلى أنَّ السيادة هي : " السلطة العليا التي لا نعرف فيما تنظّم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها " [9] .
وممن بيّن مفهوم السيادة هوبز ، إذ وضح أنَّها : " سلطة عليا متميزة وسامية ، ليست في القمة بل فوق القمة ، فوق كل الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كلّه ؛ ولهذا السبب فإنَّ هذه السلطة تكون مطلقة ، وبالتالي غير محدودة لا في مداها ولا في مدتها ، وبدون مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض " [10] .
ومع أنَّ بودان بيّن فكرة السيادة ، لكن بيانه لها قد خلا من بيان أساس لهذه السيادة ، ولاسيما مع استبعاده للتأسيس على نظرية التفويض الإلهي في المفهوم الكنسي ، وهو ما جعل فكرة السيادة لديه لا ترقى إلى مستوى النظرية ؛ مما فتح المجال لتدخل غيره في استكمال بناء نظرية السيادة وفق الفلسفة الوضعية [11] ؛ ثم شاع هذا المصطلح في الفكر الديمقراطي بعد كتاب " العقد الاجتماعي" للفيلسوف الفرنسي جان جاك رسو ، حين شارك في استكمال النظرية وفق فلسفته ؛ فطبق معنى السيادة الوضعي من خلال نظريتي : سيادة الأمّة ، وسيادة الشعب .
والذي يهمنا هنا كما أسلفت ، هو معنى السيادة وحقيقته المؤثرة في الحكم المتعلق بديننا ونظامنا الإسلامي ، لا بغيره ؛ إذْ هو المعيار والحكم على غيره لا العكس ؛ لأنَّ الشرعي حين يُبيِّن حكم مصطلح ما ، من المصطلحات المحدثة أو الوافدة ، فإنَّه يبحث عن معنى المصطلح وحقيقته ، سواء وجد في الواقع أو لم يوجد ، وهو لا يرهن الحكم باللفظ والنشأة على حساب المعنى ، ولا برؤية من حاول تطبيقه وفق فلسفته .
وبعبارة أخرى : أن يفرق بين البحث في نشأة المصطلح بوصفه مصطلحا بلفظه ومعناه ، فهنا في الأمر سعة . وبين البحث في حقيقة المصطلح ومعناه بغض النظر عن لفظه ونشأته وتاريخه ، وهنا لابد من بيان الحكم الشرعي فيه .
وعليه فخلاصة القول هنا : أنَّ السيادة في نظرية الدولة ونظام الحكم ، تعني في أصل فكرتها : السلطة العليا المطلقة التي تقيٍّد سلطة الأمّة ، وسلطة الحكومة بسلطاتها ، ومن ثمّ تقيد تبعاً لذلك القواعد القانونية التي يتشكل منها الدستور ، والذي تقوم بوضعه سلطة عليا تمثل المجتمع .
وممن عرفها بلغة الشرعيين ، الدكتور صلاح الصاوي ، إذ قال : " السيادة هي : السلطة العليا المطلقة التي تفرّدت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال " [12] .
(3)
وبناء على هذا البيان لحقيقة السيادة الذي خلاصته وجود سلطة عليا مطلقة لا تحكمها سلطة أخرى لا بجانبها ولا أعلى منها ؛ فإنَّنا نستطيع أن نقول بكل ثقة ووضوح : تلك حقيقة لا توجد في غير نظام الإسلام ، وهي ظاهرة في نظام الحكم الإسلامي على وجه الخصوص ؛ فإنَّه محكوم باتفاق المسلمين بسلطة عليا مطلقة حقا ، تتمثل في : كتاب الله تعالى وسنة رسوله .
يوضح ذلك الدكتور فتحي عبد الكريم في رسالته العلمية (الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي – دراسة مقارنة) حين يبين ذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسة :
الأول : أنَّ السيادة ونظريات السيادة ، لم تستطع تقديم أساسٍ قانونيٍ أعلى للسلطة ، سوء كان ذلك في الفكرة الأولى للسيادة ، أو بعد انتقالها إلى الأمَّة أو الشعب ؛ وهذا ما دفع بعض كبار أساتذة القانون الفرنسيين (دوجي) إلى أن يقرِّر أنَّ فكرة السيادة بمفهومها الحقيقي ، " غير قابلة لأي حلّ بشري ! لأنَّه لا يمكن لأحدٍ أن يُفسِّر من الناحية الإنسانية – أن إرادة إنسانية يمكن أن تسمو أو تعلو على إرادة إنسانية أخرى " [13].
ولهذا يقرّر أستاذ آخر هو (لافاريير) أنَّه : " إذا كانت النية تتجه إلى تقديم السيادة على أنَّها حق في الأمر ، فإنَّه لا يوجد سوى نظرية واحدة منطقية ومقبولة ، وهي : النظرية الدينية ، تلك التي تُقرِّر أنَّ السلطة السياسية ترجع في مصدرها إلى الله ؛ وفي هذه الحالة إذا ما وجد في السيادة عنصر إلهي ، فإنَّ الإرادات البشرية سوف تخضع لقرارات صاحب السيادة ؛ لأنَّ هذه السيادة سوف تكون إعلاناً عن سلطة تعلو سلطة البشر " [14] .
الثاني : أنَّ سلطة السيادة مطلقة ؛ وهذا يعني أنَّه لا يصح أن ترد عليها قيود ؛ لأنَّ ورود القيود عليها يخالف جوهر النظرية ، ولا تتفق مع طبيعتها كما يقول د. فتحي عبدالكريم، الذي يقول " ولهذا السبب وجدنا أحد كبار المفكرين (جورج سل) يقرر بحق أنّ نظرية السيادة غير مفهومة في ظل شخصية الدولة القانونية التي تحيا في ظل نظام قانوني؛ لأنَّ السيادة تعني قدرة العمل الإرادي المطلق في حين أنَّ الدولة كشخصية قانونية– تعني قدرة العمل الإرادي المحدّد وفق النظام القانوني،ويرى سل أنَّ فكرة السيادة تؤدي إلى هدم فكرة الدولة القانونية ومبدأ سيادة القانون .
أمَّا طبقاً للنظرية الإسلامية ، فإنَّ السلطة مقيدة بأحكام القرآن والسنة ، والتي تُشكِّل نوعاً سامياً من القانون الدستوري الذي يعلو على القانون الدستوري الوضعي ؛ لأنَّ الأمَّة كلّها لو اجتمعت لا تملك أن تغيّر أو تعدّل فيه . وبذلك كانت دولة الإسلام أول دولة قانونية في التاريخ ، يَخضع فيها الحكّام للقانون ويمارسون سلطانهم وفقاً لقواعد عليا تُقيدهم ولا يستطيعون الخروج عليها " .
الثالث : من حيث ضمانات تقييد السلطة بالسيادة ؛ فإنَّ " نظرية السيادة حسب مفهومها الأصلي الصحيح ، تأبى أي تقييد للسلطة ، ولا تعرفه ، وأنَّ السلطة فيها مطلقة من أيّ قيود ؛ لذلك فإنَّه يكون من المنطقي أن لا تعرف هذه النظرية فكرة الضمانات اللازمة لتقييد السلطة ؛ وبالتالي فلا يمكن القول بوجود أيّة ضمانات لهذا التقييد .
أمَّا بالنسبة للنظرية الإسلامية ، فإنَّ الوضع مختلف ، ذلك أنَّ رسالة الإسلام لم تكتف بوضع نظام الحكم المقيد ؛ وإنَّما عنيت أيضاً بوضع ضمانات لهذا التقييد ... ولقد رأينا من من دراسة النظرية الإسلامية أنَّ هذه الضمانات على نوعين : يتمثل أولهما في الشورى ، وما تمثله من ضرورة رجوع الحكّام إلى الأمَّة في الأمور الهامّة . ويتمثل الثاني في رقابة الأمّة نفسها على تصرفات الحكّام ، وحقّها في عزلهم إن صدر منهم ما يُبرِّر ذلك "[15] قلت كما ورد في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه : ( دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه ؛ فكان فيما أخذ علينا ، أن بايعنا على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا . وأن لا ننازع الأمر أهله . قال (( إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه ب)) ) رواه الشيخان .
ومن له معرفة بالنظام الإسلامي ، لن يجد معاناة في تحديد حقيقة السيادة العليا في النظام الإسلامي كلِّه بما فيه النظام السياسي ، فما هي إلا تلك التي يعبّر عنها العلماء والمفكرون المسلمون المعاصرون بتعبيرات من مثل :
مبدأ المشروعية العليا ، و الحاكمية ، و الشرعية العليا ، والحكم بما أنزل الله ؛ ونحوها من التعبيرات المألوفة لدى الشرعيين والمتخصصين ، بل ولدى عموم المسلمين .
(4)
ومن هنا فلا غرابة في اتفاق العلماء والباحثين المعاصرين - ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية - على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة ؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية .
والحقيقة أنَّك عندما تضطر لتوضيح الواضحات، ستجد معاناة تشبه معاناتك عندما تحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها ! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية ؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام ، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها[16] ، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها .
وهنا أكتفي بعبارات كافية شافية - لمريد الحق دون مكابرة - في تأكيد حقيقة أنَّ سيادة الشريعة من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة ؛ بعضها للمتقدمين ، وبعضها للمعاصرين .
فمن عبارات المتقدمين الممزوجة بالاستدلال : قول أبي العباس ابن تيمية -رحمه الله- منبها إلى دليل الإجماع هنا في أقوى صوره : " قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس : عربهم وعجمهم ، ملوكهم وزهادهم ، وعلمائهم وعامتهم ؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة ، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين ، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات ؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته .. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ... فكيف بمن دونهم ، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام : أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى ؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره ، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل ؟! " [17] .
ومنها قول ابن القيم رحمه الله : " والصحيح أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنَّه مستحق للعقوبة ، فهذا كفر أصغر .
وإن اعتقد أنَّه غير واجب ، وأنَّه مخيّر فيه مع تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر . وإن جهله و أخطأه ، فهذا مخطئ ، له حكم المخطئين " [18] .
وقال ابن أبي العز الحنفي : " ... إن اعتقد أنّ الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنَّه مخير فيه ، أو استهان به بعد تيقنه أنَّه حكم الله ، فهذا كفر أكبر " [19] .
ولاحظ التصريح بنفي التخيير في العبارات السابقة .
ومن عبارات المعاصرين الممزوجة بالاستدلال : قول الشيخ محمد شلتوت رحمه الله : " العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة ، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة ، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة ، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة ؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس ، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية ، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها ، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس .
وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة ، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة ، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين .
وعليه فمن آمن بالعقيدة ، وألغى الشريعة ، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله ، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة " [20] .
ومن العبارات الأكثر دقة في وصف الواقع بحكم المعاصرة ، قول الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله : " هناك أشياء أطلق عليها علماء أمتنا الكبار اسم (المعلوم من الدين بالضرورة) ، ويقصدون بها الأمور التي يستوي في العلم بها الخاص والعام ، ولا تحتاج إلى نظر واستدلال عليها ، لشيوع المعرفة بها بين أجيال الأمة وثبوتها بالتواتر واليقين التاريخي .
وهذه الأشياء تمثل الركائز أو (الثوابت) التي تجسّد إجماع الأمَّة ، ووحدتها الفكرية والشعورية والعلمية .
ولهذا لا تخضع للنقاش والحوار أساساً بين المسلمين ، إلا إذا راجعوا أصل الإسلام ذاته!
وأعتقد أنَّ من هذه الأمور : أنَّ الله تعالى لم ينزل أحكامه في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، للتبرك بها ، أو لقراءتها على الموتى ! أو لتعليقها لافتات تزيّن بها الجدران ؛ وإنَّما أنزلها لتُتَّبع وتنفّذ ، وتحكم علاقات الناس ، وتضبط مسيرة الحياة وفق أمر الله ونهيه ، وحكمه وشرعه .
وكان يكفي هذا القدر عند من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ، وبالقرآن منهاجا ؛ لأن يقول أمام حكم الله ورسوله : سمعنا وأطعنا ، دون حاجة إلى بحث عن دليل جزئي من النصوص المحكمة والقواعد الثابتة " [21] ؛ ثم سرد جملة من الأدلة التي جعلت لزومية الحكم بما أنزل من الأحكام المعلومة بالضرورة من دين الإسلام تحت عنوان تالٍ: " كثرة الأدلة على فرضية الحكم بما أنزل الله " .
-----------------------------
[1] وضعت هذه المقالة بناء على اقتراح عدد من الإخوة والأخوات ؛ قصد كشف موقف العلماء الشرعيين ممن لهم عناية بالفقه السياسي والسياسة الشرعية، وغيرهم من أهل الشأن - من إشكالية أجنبية مستوردة ألصقت بالإسلام! وهي إشكالية وشبهة ليست بجديدة ؛ بل وجدت منذ عقود فأسقطت في حينها ، لكنها تجدد على نحو ما ، أحيانا تلبيسا ومناكفة من خصوم الشريعة، وأحيانا التباساً من بعض مريديها ، والنتيجة واحدة .
[2] الأسس العلمية لفلسفة التاريخ،لجوستاف لوبون:17-18(بواسطة:أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث،د.عبد الحميد متولي:248) .
[3] أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، د. عبد الحميد متولي :248 . وفصَّل القول في ذلك بالمثال في ص: 198 وما بعدها .
[4] السيادة في الإسلام – بحث مقارن ، د. عارف أبو عيد :25-26 .
[5] ينظر : نظرية الدولة ، د. محمد كامل عبيد :292 ، بواسطة : مبادئ نظام الحكم في الإسلام ، د. فؤاد محمد النادي :25 ؛ وأصول نظام الحكم في الإسلام ، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد : 108.
[6] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :85 ؛ و أصول نظام الحكم في الإسلام ، لأستاذنا د. فؤاد عبد المنعم أحمد : 108.
[7] المرجع السابق .
[8] ينظر : السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية : ، د.محمد مفتي و د. سامي صالح الوكيل :13 .
[9] المرجع السابق ، نقلاً عن : القانون الدستوري والأنظمة السياسية ، لمتولي :29 .
[10] فكرة السيادة لجاك ماريتان ، المجلة الدولية للتاريخ السياسي الدستوري :13، بواسطة : الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :85 ؛ وينظر: السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية : ، د.محمد مفتي و د. سامي صالح الوكيل :16 .
[11] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :88-89 .
[12] نظرية السيادة وأثرها على شرعية الأنظمة الوضعية ، له :14 .
[13] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :463 .
[14] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :463 .
[15] الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ، د.فتحي عبد الكريم :464-465 .
[16] ويمكن أن يراجع فيها – إضافة إلى كتب العقيدة والتفسير والأصول والرسائل والفتاوى لكبار علماء الأمة ومفكريها المؤصلين من السابقين والمعاصرين- بعض الأطروحات العلمية المتخصصة ، ومن أجمعها : الحكم والتحاكم في خطاب الوحي ، ، للشيخ عبدالعزيز مصطفى كامل ، وهو يقع في مجلدين ، من مطبوعات دار طيبة عام 1415 .
[17] مجموع الفتاوى :11/424 .
[18] مدارج السالكين :1/365 .
[19] شرح العقيدة الطحاوي ، لابن أبي العز الحنفي ،تحقيق الشيخ أحمد شاكر ص :304 ط 1418.
[20] الإسلام عقيد وشريعة :11 .
[21] من فقه الدولة في الإسلام : 102 .
تعالوا معي نتعرف على شيء من تعاليم ديننا الحنيف ، شيء ننتفع به في آخرتنا ، يكون لنا عونا ودافعا لدخول الجنة ، برحمة الله وفضله.
ودعونا نتعرف على هذه التعاليم عن طريق نبينا صلى الله عليه وسلم ، فهو الطريق الأقوم ، وليس هناك من طريق سواه.
وسوف تكون {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
مبدئنا، راجين من الله تعالى أن يفقهنا في ديننا ، وأن يشرح صدورنا للإسلام.
ولنكن صادقين مع أنفسنا ، خالصي النية في اتباعنا لنبينا الكريم ، مستبعدين للهوى ونوازع الفرقة والخلاف عن أنفسنا ، وأن يكون توجهنا ووجهتنا شطر نبينا الكريم صلَّ الله عليه وسلم.
هذا وبالله التوفيق ، ومنه العون والسداد.
وقبل البداية لابد لنا أن نرسي لأنفسنا بعض القواعد والأسس والأُطُر العامة ، في اتباع نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم ، وهذه الأسس والقواعد ليست من عند أنفسنا ، ولكنها نابعة من ديننا القويم ، من كتاب ربنا الكريم ، وسنة نبينا الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وأول هذه الأسس والقواعد ؛ {وتؤمنون بالكتاب كله}.
وهذا معناه أن نحتكم في كل ما نختلف فيه إلى كتاب ربنا العزيز ، وأن نرد الأمر كله إليه ، فإذا حكم لنا أو علينا ، فقولنا هو قول المؤمنين المخلصين الطائعين : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ؛ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وثانيها ؛ وهو عنوان مشاركاتي : {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
وهو من أهم الأسس والأُطر العامة التي لابد للمسلم أن يلتزم بها في حياته الدنيا ، حتى ييسر الله له أمر دينه ودنياه.
وثالثها ؛ وهو أساس متين وأصل أصيل أرساه لنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ؛
فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ :
"خَطَبَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ.".
أخرجه الحميدي ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم.
هل قرأتم معنا : "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ" تأملوا وتدبروا هذا النور ، وهذه الرحمة من الذي أرسله الله رحمة للعالمين ، فلو أننا التزمنا بما في هذا النور من الخير والفضل لما كان بيننا خلاف ولا نزاع.
وإذا اختلفنا فسيكون الحكم له ـ أي لله عز وجل ـ وسنسلم بما جاءنا عن الله عز وجل ؛ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}. [النساء: 65].
وفيه أيضا : "َإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ" وهذا أصل كبير ، يعتمد عليه المسلم في دينه ، وفضل من الله ونعمة.
ولن نطيل عليكم ، فالأمر يحتاج منا لجهد كبير حتى نستطيع أن نَفِيَ الأمر حقه ، ولكن المسلم تكفيه الإشارة ، والله يوفقنا وإياكم لطاعته ، واتباع رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، والله ولي التوفيق ؛
وأخيرًا وليس آخرًا ، دعونا نتعلم كيف نتبع ونطيع ونسلم لنبينا الكريم بما يأمرنا به وينهانا عنه ، فكيف نتبع ؛
قَالَ الْبَرَاءُ : فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا بَلَغْتُ : اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ . قُلْتُ : وَرَسُولِكَ . قَالَ : لاَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.".
أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وأبوداود ، والترمذي ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان.
انظروا وتأملوا ، حتى هذا التبديل الحرفي ، والذي قد يقول فيه بعض أهل اللغة : إنه لا يُخل بالمعني ، لأن : رسولك الذي أرسلت ، هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، و : نبيك الذي أرسلت ، هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
هذا ، لم يقبله النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال للبراء : "لاَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئا من عند نفسه ، وإنما هو من عند الله : {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
كان لا بد لنا من هذه المقدمة الموجزة لكي نتعرف على كيفية الطاعة والأخذ عن المرسل رحمة للعالمين.
فهذا فيض من غيض ، وسطر من قمطر ، ولكن كما قلنا سابقا المسلم هو من تكفيه إشارة ، وبعدها يسلك الطريق الأقوم ، برحمة من الله وفضل.
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون )
قوله تعالى: « أفرأيت من اتخذ إلهه هواه » قال ابن عباس والحسن وقتادة: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه؛ فلا يهوى شيئا إلا ركبه. وقال عكرمة: أفرأيت من جعل إلهه الذي يعبده ما يهواه أو يستحسنه؛ فإذا استحسن شيئا وهويه اتخذه إلها. قال سعيد بن جبير: كان أحدهم يعبد الحجر؛ فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر. وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه. وقال سفيان بن عيينة: إنما عبدوا الحجارة لأن البيت حجارة. وقيل: المعنى أفرأيت من ينقاد لهواه ومعبوده تعجيبا لذوي العقول من هذا الجهل. وقال الحسن بن الفضل: في هذه الآية تقديم وتأخير، مجازه: أفرأيت من اتخذ هواه إلهه. وقال الشعبي: إنما سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال ابن عباس: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه، قال الله تعالى: « واتبع هواه فمثله كمثل الكلب » [ الأعراف: 176 ] . وقال تعالى: « واتبع هواه وكان أمره فرطا » [ الكهف: 28 ] . وقال تعالى: « بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله » [ الروم: 29 ] . وقال تعالى: « ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله » [ القصص: 50 ] . وقال تعالى: « ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله » [ ص: 26 ] . وقال عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به » . وقال أبو أمامة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى الله من الهوى » . وقال شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم: « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت. والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله » . وقال عليه السلام: « إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة » . وقال صلى الله عليه وسلم: « ثلاث مهلكات وثلاث منجيات فالمهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه. والمنجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الغنى والفقر والعدل في الرضا والغضب » . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه؛ فإن كان عمله تبعا لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان عمله تبعا لعلمه فيومه يوم صالح. وقال الأصمعي سمعت رجلا يقول:
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شام فنظمه وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال آخر:
إن الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبّدك الهوى فاخضع لحبك كائنا من كانا
ولعبدالله بن المبارك:
ومن البلايا للبلاء علامة ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع تارة ويجوع
ولابن دريد:
إذا طالبتك النفس يوما بشهوه وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما هواك عدو والخلاف صديق
ولأبي عبيد الطوسي:
والنفس إن أعطيتها مناها فاغرة نحو هواها فاها
وقال أحمد بن أبي الحوارى: مررت براهب فوجدته نحيفا فقلت له: أنت عليل. قال نعم. قلت: مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي! قلت فتداوى؟ قال: قد أعياني الدواء وقد عزمت على الكي. قلت وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى. وقال سهل بن عبدالله التري: هواك داؤك. فان خالفته فدواؤك. وقال وهب: إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته. وللعلماء في هذا الباب في ذم الهوى ومخالفته كتب وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه؛ وحسبك بقوله تعالى: « وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى » [ النازعات:41 ] .
قوله تعالى: « وأضله الله على علم » أي على علم قد علمه منه. وقيل: أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه. وقال ابن عباس: أي على علم قد سبق عنده أنه سيضل. مقاتل: على علم منه أنه ضال؛ والمعنى متقارب. وقيل: على علم من عابد الصنم أنه لا ينفع ولا يضر. ثم قيل: « على علم » يجوز أن يكون حالا من الفاعل؛ المعنى: أضله على علم منه به، أي أضله عالما بأنه من أهل الضلال في سابق علمه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول؛ فيكون المعنى: أضله في حال علم الكافر بأنه ضال. « وختم على سمعه وقلبه » أي طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى. « وجعل على بصره غشاوة » أي غطاء حتى لا يبصر الرشد. وقرأ حمزه والكسائي « غشوة » بفتح الغين من غير ألف وقال الشاعر:
أما والذي أنا عبد له يمينا ومالك أبدى اليمينا
لئن كنت ألبستني غشوة لقد كنت أصفيتك الود حينا
« فمن يهديه من بعد الله » أي من بعد أن أضله. « أفلا تتذكرون » تتعظون وتعرفون أنه قادر على ما يشاء.
وهذه الآية ترد على القدرية والإمامية وسلك سبيلهم في الاعتقاد؛ إذ هي مصرحة بمنعهم من الهداية. ثم قيل: « وختم على سمعه وقلبه » إنه خارج مخرج الخبر عن أحوالهم. وقيل: إنه خارج مخرج الدعاء بذلك عليهم؛ كما تقدم في أول « البقرة » . وحكى ابن جريج أنها نزلت في الحارث بن قيس من الغياطلة. وحكى النقاش أنها نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، وذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم إنه لصادق! فقال له مه! وما دلك على ذلك!؟ قال: يا أبا عبد شمس، كنا نسميه في صباه الصادق الأمين؛ فلما تم عقله وكمل رشده، نسميه الكذاب الخائن!! والله إني لأعلم إنه لصادق! قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني قد اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزى إن اتبعته أبدا. فنزلت: « وختم على سمعه وقلبه » .
( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ( 31 ) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ( 32 ) ) ال عمرآن
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولهذا قال : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) أي : يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو محبته إياكم ، وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض الحكماء العلماء : ليس الشأن أن تحب ، إنما الشأن أن تحب ، وقال الحسن البصري وغيره من السلف : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية ، فقال : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن عبد الأعلى بن أعين ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وهل الدين إلا الحب والبغض ؟ قال الله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) قال أبو زرعة : عبد الأعلى هذا منّكر الحديث .
ثم قال : ( ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) أي : باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله ببركة الطاعه .
ثم قال آمرا لكل أحد من خاص وعام : ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا ) أي : خالفوا عن أمره ( فإن الله لا يحب الكافرين ) فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه ، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس الذي لو كان الأنبياء - بل المرسلون ، بل أولو العزم منهم - في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه ، والدخول في طاعته ، واتباع شريعته . أهـ
قال تعالى في سورة العنكبوت : " اتل ما اوحي اليك من الكتاب وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ماتصنعون "
أما تفسير الأية :
قوله تعالى:
إنَّ الصَلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- :
(( فقوله: إنَّ الصَلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ؛بيانٌ لِمَا تتَضَمْنُه مِنْ دَفْعِ المَفَاسِدِ، وَالمَضَارِ، فإنَّ النَّفْسَ إذا قَامَ بِهَا ذِكْرُ الله ، وَدُعَاؤُهُ – لاسيّما- عَلى وَجْهِ الخُصُوصِ – أكسبها ذلَكَ صَبْغَةً صَالِحَةً، تَنْهَاهَا عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَر، كَمَا يَحُسُّه الإنسانُ مِن نَفْسِهِ، ولهذا قال: واسْتَعِيْنُوا بِالصَبْرِ وَالصَلاة [ البقرة/45 ]؛ فإن القلب يحْصُل له مِنَ الفَرَحِ والسُرُورِ، وَقُرَةِ العَينِ، مَا يُغْنِيهِ عَنِ اللَّذَاتِ المَكْرُوْهَةِ، وَيَحْصُل له مِنَ الخَشْيَةِ، وَالتَعْظِيْمِ، وَالمَهَابَةِ– وَكُلُ وَاحِدٍ مِنْ رَجَائهِ وَخَشْيَتِهِ، وَمَحَبْتِهِ – ناهِ ينهاه.
وَقَوْلِهِ : وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ ؛ بيان لما فيها من المنفعة، وَالمَصْلَحَة - أي ذِكْرُ الله الذي فيها - أكبر من كونها ناهية عن الفحشاء، والمنكر، فإن هذا هو المقصود لنفسه، كما قال : إِذَا نُوْدِيَ لِلْصَلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ [الجمعة/9 ] ،والأول تابع(1 )، فهذه المصلحة والمنفعة أعظم من دفع تلك المفسدة(4) ...
ومن ظن أن المعْنى(2 ): وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ؛ من الصلاة ؛ فقد أخطأ؛ فإن الصلاة أفضل من الذِكْرِ المُجَرَّد بالنص والإجماع ، والصلاة ذكر الله؛ لكنها ذكرٌ على أكمل الوجوه ، فكيف يُفضَّل ذكر الله المطلق على أفضل أنواعه ؟ ))(3 )
:_
1- وهو النهي عن الفحشاء، والمنكر، فذكر الله تعالى مطلوب لذاته، وأما نهي الصلاة عن الفحشاء، والمنكر؛ فهو مطلوب لغيره، ينظر مجموع الفتاوى (32/ 234) .
2 - انظر تفسير الطبري ( 20/ 156-158) أحكام القرآن للجَصَّاص (3/454-455) ، أحكام القرآن لإلْكِيا (1/23) ، أحكام القرآن لابن العربي (3/517) ، الجامع للقرطبي(13/308).
3 - مجموع الفتاوى (0/192-193) وينظر الفتاوى الكبرى ( 4/468) ، ومجموع الفتاوى (32/234) ، وقد نقل ابن القيم كلام شيخ الإسلام هذا بمعناه، ونسبه له في الوابل الصيب (ص/103)، ومدارج السالكين (2/426)، ومن كلام الشيخ في فضائل الصلاة عامة ما تراه في مجموع الفتاوى (10/ 433-440)، (35/ 107) .
4 - وهو مروي عن ابن عون أخرجه ابن جرير ( 20/158) 0
وللفائدة
1381 - تفسير ( ولذكر الله أكبر )
3591 - حدثني علي بن حمشاذ العدل ، أخبرني يزيد بن الهيثم ، ثنا إبراهيم بن أبي الليث الأشجعي ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة ، قال : سألني ابن عباس - رضي الله عنهما - عن قول الله عز وجل : ( ولذكر الله أكبر ) فقلت : ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير ، فقال : لا ، ذكر الله أكبر من ذكركم إياه .
صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
:_
والذكر :
اولا : الذكر في القرآن الكريم /
قال الله تعالى " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين "
قال ابن كثير رحمه الله : امر تعالى بذكره اول النهار واخره كثيرا وما قوله (تضرعا وخفية ) أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة ( تفسير ابن كثير )
وقال تعالى في سورة العنكبوت : " اتل ما اوحي اليك من الكتاب وأقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر والله يعلم ماتصنعون "
قال البغوي رحمه الله في تفسيره أي ذكر الله اياكم افضل من ذكركم اياه وقال ايضا : أي ذكر الله افضل الطاعات
( تفسير البغوي )
ثانيا : الذكر في السنة المطهرة /
قال النبي عليه الصلاة والسلام : يقول الله تعالى في الحديث القدسي " انا عند ظن عبدي بي وانا معه اذا ذكرني فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " (متفق عليه )
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( الا انبئكم بخير اعمالكم وازكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا اعناقهم ويضربوا اعناقكم قالوا : بلى قال : ( ذكر الله تعالى ) ( رواه الترمذي وغيره وصححه الالباني )
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : ان اخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قلت : أي الاعمال احب الي الله ؟ قال " ان تموت ولسانك رطب من ذكر الله . ( رواه بن ابي الدنيا وقال الالباني حسن صحيح )
ثالثا : هل للذكر ثمار يجنيها العبد ؟ /
1- ان الذكر يساوي كثير من العبادات :
قال النبي صلى الله عليه وسلم " من عجز منكم عن الليل ان يكابده وبخل بالمال ان ينفقه وجبن عن العدو ان يجاهده فليكثر من ذكر الله " ( رواه الطبراني وقال الالباني صحيح لغيره )
2- ان الذكر ينجي من عذاب الله عزوجل :
قال النبي صلى الله عليه وسلم " ماعمل ادامي عملا انجى له من العذاب من ذكرالله تعالى "
( رواه الطبراني في الصغير وقال الالباني حسن لغيره )
3- معيه الله عزوجل للذاكر :
قال النبي عليه الصلاة والسلام " ان الله عزوجل يقول : انا مع عبدي اذا هو ذكرني وتحركت به شفتاه " ( رواه ابن ماجه وقال الالباني صحيح لغيره )
4- مضاعفة الاجور وتكفير السيئات :
قال النبي عليه الصلاة والسلام لجلساته : " ايعجز احدكم ان يكسب الف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب احدنا الف حسنة ؟ قال : يسبح احدكم مائة تسبيحة تكتب له الف حسنة وتحط عنه الف سيئة " ( رواه الترمذي وصححه الالباني )
رابعا : اقوال السلف في الذكر /
قال ابو الدرداء رضي الله عنه لكل شيء جلاء وان جلاء القلوب ذكر الله تعالى ( شعب الايمان للبيهقي )
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : احب عباد الله الي الله اكثرهم له ذكرا واتقاهم قلبا ( جامع العلوم والحكم لابن رجب )
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : الذكر للقلب مثل الماء للسمك فكيف يكون حال السمك اذا فارق الماء ؟ ( الوابل الصيب لابن القيم الجوزية )
قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى : ذكر الله باللسان حسن وافضل منه ان يذكره العبد عند المعصية فيمسك عنها ( جامع العلوم والحكم لابن رجب )
وقال مسروق رحمه الله تعالى : ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في الصلاة وان كان في السوق
( شعب الايمان للبيهقي )
وصلَّ الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
اسأل الله تبارك وتعالى ان يجعلنا واياكم من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ويتقبل منا ومنكم
ويكون خالصا لوجهه الكريم انه جواد كريم
اللهم آمين ..
يقول أحد الدعاة: كان هناك رجل عليه دين، وفي يوم من الأيام جاءه صاحب الدين وطرق عليه الباب ففتح له أحد الأبناء فاندفع الرجل بدون سلام ولا احترام وأمسك بتلابيب صاحب الدار وقال له: اتق الله وسدد ما عليك من الديون فقد صبرت عليك أكثر من اللازم ونفذ صبري ماذا تراني فاعل بك يا رجل؟!.
وهنا تدخل الابن ودمعة في عينيه وهو يرى والده في هذا الموقف وقال للرجل كم على والدي لك من الديون، قال أكثر من تسعين ألف ريال.
فقال الابن: اترك والدي واسترح وأبشر بالخير، ودخل الشاب إلى غرفته حيث كان قد جمع مبلغا من المال قدره سبعة وعشرون ألف ريال من راتبه ليوم زواجه الذي ينتظره ولكنه آثر أن يفك به ضائقة والده ودينه على أن يبقيه في دولاب ملابسه.
دخل إلى المجلس وقال للرجل: هذه دفعة من دين الوالد قدرها سبعة وعشرون ألف ريال وسوف يأتي الخير ونسدد لك الباقي في القريب العاجل إن شاء الله.
هنا بكى الأب وطلب من الرجل أن يعيد المبلغ إلى ابنه فهو محتاج له ولا ذنب له في ذلك فأصرّ الشاب على أن يأخذ الرجل المبلغ.
وودعه عند الباب طالبا ًمنه عدم التعرض لوالده و أن يطالبه هو شخصياً ببقية المبلغ.
ثم تقدم الشاب إلى والده وقبل جبينه وقال يا والدي قدرك أكبر من ذلك المبلغ وكل شيء يعوض إذا أمد الله عمرنا ومتعنا بالصحة والعافية فأنا لم أستطع أن أتحمل ذلك الموقف، ولو كنت أملك كل ما عليك من دين لدفعته له ولا أرى دمعة تسقط من عينيك على لحيتك الطاهرة.
وهنا احتضن الشيخ ابنه و أجهش بالبكاء و أخذ يقبله ويقول الله يرضى عليك يا ابني ويوفقك ويحقق لك كل طموحاتك.
وفي اليوم التالي وبينما كان الابن منهمكاً في أداء عمله الوظيفي زاره أحد الأصدقاء الذين لم يرهم منذ مدة وبعد سلام وسؤال عن الحال والأحوال قال له ذلك الصديق: يا أخي أمس كنت مع أحد كبار رجال الأعمال وطلب مني أن أبحث له عن رجل مخلص وأمين وذو أخلاق عالية ولديه طموح وقدرة على إدارة العمل وأنا لم أجد شخصاً أعرفه تنطبق عليه هذه الصفات إلا أنت فما رأيك أن نذهب سوياً لتقابله هذا المساء.
فتهلل وجه الابن بالبشرى وقال: لعلها دعوة والدي وقد أجابها الله فحمد الله كثيراً، وفي المساء كان الموعد فما أن شاهده رجل الأعمال حتى شعر بارتياح شديد تجاهه وقال: هذا الرجل الذي أبحث عنه وسأله كم راتبك؟ فقال: ما يقارب الخمسة ألاف ريال. فقال له: اذهب غداً وقدم استقالتك وراتبك خمسة عشر ألف ريال، وعمولة من الأرباح 10% وراتبين بدل سكن وسيارة، وراتب ستة أشهر تصرف لك لتحسين أوضاعك.
وما أن سمع الشاب ذلك حتى بكى وهو يقول ابشر بالخير يا والدي. فسأله رجل الأعمال عن سبب بكائه فحدثه بما حصل له قبل يومين، فأمر رجل الأعمال فوراً بتسديد ديون والده، وكانت محصلة أرباحه من العام الأول لا تقل عن نصف مليون ريال.
وقفة:
بر الوالدين من أعظم الطاعات وأجل القربات وببرهما تتنزل الرحمات وتنكشف الكربات، فقد قرن الله برهما بالتوحيد فقال تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما } الإسراء.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله ).
وعن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل ) صحيح مسلم.
وهذا حيوة بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين يقعد في حلقته يعلم الناس ويأتيه الطلاب من كل مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حيوة فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
واعلم أخي الحبيب أن من أبواب الجنة الثمانية ( باب الوالد ) فلا يفوتك هذا الباب واجتهد في طاعة والديك فو الله برك بهما من أعظم أسباب سعادتك في الدنيا والآخرة.
أسال الله جلا وعلا أن يوفقني وجميع المسلمين لبر الوالدين والإحسان إليهما .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد ..
فقد مّر على الديارِ النجدية فيما مضى أيام انتشر فيها الشرك وارتفعت رايته ، وطمست معالم التوحيد في كثير من بقاعها ، وفشت البدع والخرافات بين الناس حتى صار التوحيدُ بينهم غريباً ، ومن دعا إليه فكأنه جاء بدعاً من القول؛ فنادوا به بكل تهمة؛ وكادوه بكل طريق وسبيل؛ واستعانوا عليه بأعوانهم من الفسقة والأراذل ؛ حتى ارتفع صوتُ الباطل ودوّى؛ وضعف صوتُ الحق، وخفَت نوره. وقد فشا الشرك بين الجهلة؛ فكانوا يأتون القبور فيدعونها رغباً ورهباً ويزعمون أنها تقضي الحوائج؛ وكانت المرأة إذا تأخر زواجها ولم ترغب فيها الأزواج تذهب إلى - فحل نخلٍ – وتدعوه من دون الله قائلةً : يا فحل الفحول؛ أريد زوجاً قبل الحَول.
وكانوا يتبركون بالأشجار فيعلقون عليها الخرق؛ رجاء البركة وللاستشفاء من الأمراض؛ وهكذا من وسائل الشرك والانحدار وصرف العبادة لغير الله .
فلما أراد الله سبحانه أن يُتِمَّ نعمته على عباده؛ وينصرَ دينَه ويعلي كلمتَه، أذن بظهور نور التوحيد براقاً في كلِّ أفقٍ وبقعة في تلك الديار، فازدهرت الأرض به بعد محلٍ وقحْط ، وارتوت به بعد ظمأٍ وهلكة ، وأنقذ الله به عباده من ظلمات الجهل والشرك والتذلل لغيره سبحانه.
وكان ذلك على يد الإمام المجاهد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ يعاونه على ذلك ويشد أزره الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى.
فقد ولد الإمام محمد رحمه الله في عام 1115 هـ؛ ولما اشتد عودُه رحل لطلب العلم فجاب الديار في سبيل ذلك وهو فتى في عنفوان شبابه؛ فلما حصل له من العلم ما يعينُه على دعوتهِ وجهاده في سبيل ذلك؛ رجع إلى بلاده حريملاء عام 1140 هـ؛ وعمره آنذاك خمسة وعشرون عاماً .
وبدأ يدعو للتوحيد ونبذ الشرك والخرافة؛ مما أهاج عليه عباد القبور والفسقة والسفلة، وقد تبعه أناس من أهل البلد لما رأوا صدقه وإخلاصَه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكعادة المصلحين في كل زمن فقد حصل على الشيخ من الشر الذي كاد أن يودي بحياته؛ وذلك بأنه كان هناك بعض الفساق والأسافل؛ كَثُر تعديهم وفسقهم فأراد الشيخ أن يمنعوا من الفساد ، وينفَّذ فيهم الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، فهمّوا بقتل الشيخ فتسوّروا عليه الجدار ليلاً؛ فكان من لطف الله أن شعر بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا.
فانتقل الشيخ بعدها إلى العينية وأميرها يومئذٍ عثمان بن حمد بن معمر؛ فتلقاه بالقبول وأكرمه ، وبين له الشيخ دعوته وقال له: إني لأرجو إن أنت قمت بنصر ( لا إله إلا الله ) أن يظهرك الله تعالى ، وتملك نجداً وأعرابها، فساعده عثمان على ذلك ، فأعلن بالدعوة وتبعه الناس؛ وكان بها أشجار تعظم فقطعها، وقبور تعبد فأزالها؛ وفشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأقيمت الحدود.
فلما ارتفع صيت الشيخ في الآفاق بلغ ذلك حاكم الأحساء؛ وكان يؤدي خراجاً لابن معمر، فهدده بقطع الخراج إن لم يخرج الشيخَ من عنده ، فأخبر ابنُ معمرٍ الشيخ محمداً بالخبر ، فقال الشيخ قول الواثق : إن هذا الذي قمت به أنا ودعوت إليه كلمة ( لا إله إلا الله )؛ وأركان الإسلام؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أنت تمسكتَ به ونصرته فإن الله سبحانه سيظهرك على أعدائك، فلا يزعجك صاحب الأحساء ولا يفزعك؛ فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة؛ ما تملك به بلاده وما وراءها وما دونها، فاستحى عثمان وأعرض عن الشيخ، فلما رجع جاء جلساء السوء إلى عثمان وخوفوه وأرجفوا به؛ حتى طلب من الشيخ أن يغادر العينية، وهذا من حكمة الله وعلمه أن نصر هذا الدين والظهورَ والغلبةَ والتمكينَ يكون لغيره وعلى يد غيره.
فانتقل الشيخ إلى الدرعية، وكان أميرها يومئذٍ محمد بن سعود رحمه الله، وكأنَّ حال الشيخ يومئذٍ كحال النبي صلى الله عليه وسلم حين كان ينادي من ينصرني من يؤويني حتى أبلغ كلام ربي.
فلما نزل بالدرعية، حل ضيفا على أحد أهل الدرعية؛ فخاف الرجل على نفسه من محمد بن سعود؛ فوعظه الشيخ وأسكن جأشه؛ وعلم به أناس من أهل الدرعية فزاروه خفية؛ فقرر لهم التوحيد واستقر في قلوبهم، فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود بمجيئه؛ ويشيروا عليه بنصرته ولكنهم هابوه، فأتوا إلى زوجته الصالحة (موضي)، وكانت ذات عقل ودين ومعرفة، فأخبروها بمكانة الشيخ؛ وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلبها حب التوحيد، وقذف الله في قلبها محبة الشيخ؛ فلما دخل عليها زوجها محمد أخبرته بمكانه، وقالت: إن هذا الرجل أتى إليك وهو غنيمة ساقها الله لك، فأكرمه وعظِّمه، واغتنم نصرته، فقَبل قولَها، ثم دخل عليه أخواه ثنيان ومشاري، وأشاروا عليه بمساعدته ونصرته، وألقى الله سبحانه في قلب محمدِ بن سعود محبَّة الشيخ محمد فأراد أن يرسل إليه، فقالت له زوجته وأخواه: سر إليه برجلك وأظهر تعظيمه، لعلَّ الناس أن يكرموه ويعظموه؛ فسار إليه محمد بن سعود.
وهذا القول منهم (أي: ثنيان ومشاري وموضي)؛ واستجابة محمد بن سعود وذهابه للشيخ؛ لهو دليل على أنهم أهل دين وتقوى؛ ما سعوا إلى الملك بل إنهم نصروا الشيخ وهو مستضعف ليس له دولة ولا ملك، وأنهم ما أرادوا إلا نصرةَ التوحيد ورفع رايته، ولذلك لما دخل محمد بن سعود على الإمام محمد بن عبدالوهاب رحب به وقال له: أبشر ببلاد خير من بلادك ، وأبشر بالعز والمنعة والنصرة والأمن؛ فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصر والتمكين والعاقبة الحميدة؛ هذا دين الله؛ من نصره نصره الله، ومن أيده أيده الله.
وهكذا فقد فتح الله على يد محمد بن سعود؛ واختاره لنصرة دينه وإقامة شرعه بالرغم من كثرة الحكام في وقته؛ كما اختار الله الإمام محمد بن عبد الوهاب لرفع راية التوحيد بالرغم من وجود علماء غيره؛ {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا ينسى مناصرة محمد بن سعود له لإقامة التوحيد ودعوة الناس إليه؛ فكان يقول في مراسلاته : إن العلماء في الشام واليمن إذا سئلوا عما أدعو إليه؛ قالوا : إن ما يدعو إليه ابنُ عبد الوهاب هو دين الله ورسوله، ولكن لا نقدر على إظهاره، لأن الدولة تحاربنا ولا ترضى بذلك، وأما ابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحقَّ اتبعه.
ثم في عام 1158 هـ بدأ الجهاد الفعلي بالحجة والبيان والسيف والسنان، وبدأ الشيخ يكاتب أهل البلدان ويراسلهم، ويكتب للرؤساء والقضاة ومدّعي العلم؛ فمنهم من اتبع الحق وقبل به، ومنه من صدّ عنه وأعرض واتخذه سخريا، واستهزأ بالشيخ ونسبه إلى الجهل والسحر وغير ذلك.
وقام عليه علماء السوء بالتشنيع والإفك يصدهم عن اتباع الهدى؛ حبُّ الدنيا والبحثُ وراءَ متاعها الزائل؛ وما ورثوه عن أسلافهم من العادات الرديئة والخرافات البائدة كما قال تعالى عنهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون}.
وها هي عادتهم في كل زمن وحين؛ يحاربون التوحيد وإقامة الدين ، وينصرون الشركَ والبدعَ والخرافاتِ؛ ولو اضطرهم ذلك إلى الهجوم بالإفك الظاهر؛ والأكاذيب الواضحة؛ واتهام أهل السنة بالزور والبهتان؛ {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.
فبدأت دعوة الشيخ تؤتي ثمارها؛ والتزم الناس بالطاعة والدخول في دين الله ، وهدموا ما عندهم من القباب وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور ، وحكّموا الشريعة ، وتركوا تحكيمَ قوانينَ الآباء ، وساد الأمن .
وفي عام 1179 هـ توفي الإمامُ محمد بن سعود؛ ناصرُ دعوة التوحيد بعد أن أقام تلك الدولة العظيمة التي بلغت محاسنها الآفاق، وسار بسيرتها الركبان وابتهج بها قلبُ كلِّ موحّدٍ صادق؛ ولم يزل الشيخ مجتهدا في دعوته بعد أن خلف محمدَ بن سعود ابنُه العادل عبد العزيز الذي أقام العدل وبث العلم ؛ فسار على طريقة والده؛ وناصرَ الشيخ في دعوته، ولا زال حتى توسعت الدولة بعد أن كانت قرية صغيرة؛ فأصبحت دولة عظيمة؛ فسيحَة الأرجاء؛ متناهيةَ الأطراف.
وبقى الشيخ على ذلك حتى توفاه الله في عام 1206 هـ؛ وكفى بفضله شرفا ما حصل بسببه من إزالة البدع واجتماع المسلمين، وتقويمِ الجماعات والجمع ، وتجديد الدينِ بعد دروسه ، وقطع أصول الشركِ بعد غروسه؛ فلم يزل مجاهداً حتى أذعن أهلَ نجدٍ وتابعوا، وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعمرت نجدٌ بعد خرابها، وصَلحت بعد فسادها، ونال الفخرَ والملكَ من نصره وآواه ، وصاروا ملوكاً بعد التفرق والقتال.
وهكذا كل من نصر الشريعةَ من قديم الزمان وحديثه ، الله ينصره على أعدائه؛ ويجعله مالكاً لمن عاداه.
وكانت عقيدته رحمه الله عقيدةُ السلفِ الأُول في الإيمان بالله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدرِ خيره وشره، ويدعو الناسَ إلى التوحيد ونبذِ الشرك والبدع؛ وهذا هو أساس العداوةِ والنـزاع بين الناس:
*إنكار الشرك والدعوةُ إلى التوحيد الخالص .
*وإنكار البدع والخرافات كالبناء على القبور واتخاذها مساجد .
فالإمام محمدُ بنُ عبد الوهاب ما جاءَ بدين جديد ولا بشريعة محدثة؛ بل إنه على عقيدة خير القرون، ويدعو إلى ما دعت إليه الأنبياءُ كافةً وهو: (توحيد الله وإفراده بالعبادة)؛ قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
فالتوحيد هو أوجبُ الواجباتِ على العبد ، وأول ما يجب على العبد أن يتدين به لربه ؛ وما خاصم أهلُ الضلالة ، أهلَ التقى والديانة وحاربوهم وحذروا منهم؛ إلا لدعوتهم لتوحيد الله وحثِّ الناس عليه.
فلما طُمِسَت بصيرتُهم؛ وزاغت قلوبهم؛ طمسَ الله بصائرهم عن معرفةِ حقيقة التوحيد ولذته؛ فتاهوا في غياهب الظلمات؛ لا يفقهون ولا يعقلون؛ صمُّ بكم عمي فهم لا يرجعون، وقاموا بالحربِ على الهدى واقتفوا طرق الضلالة، فباتوا في طغيانهم يعمهون.
إن مما دعا إلى هذه الكلمات إزالة اللبس الذي أحدثه بعض الناس ممن جهلوا حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقاموا يكيلون إليها بالتهم الكاذبة؛ والأراجيف الظالمة ، ويشوهون صورتها عند الناس ، ومما دفعهم إلى ذلك أنها دعوة التوحيد الحق؛ التي تنبذ الشرك والخرافة التي يتدين بها كثير من هؤلاء الملبِّسين الظلمة؛ الذين جعلوا خرافاتهم وبدعَهم وسيلة للتكسب وأكل أموال الناس بالباطل؛ ممن يحثّونهم على التقرب للقبور والنذر عندها؛ فيستولون على أموالهم بهذه الحيل الشيطانية.
كما أن مما دعا إلى هذه الخطبة قيامُ بعض الجهلة من رموز دعاةِ الباطل ممن تلمعهم القنوات الفضائية بالهجوم على دعوة الشيخ محمد قبل أيام – في إحدى القنوات الفضائية النتنة –وما أكثرها- ووصفها بالإرهاب والتطرف، وما كانت دعوةُ محمد بن عبد الوهاب والدولة التي قامت في وقته ولا زالت –دولة إرهاب وتطرف–بل إنها دعوة تقوم على ما قامت عليه دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ من إقرار التوحيد ونبذ الشرك ؛ {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.
وما ظهر الإرهابُ والتطرف إلا من قبل هذا وإمثاله؛ من أصحاب الدعوات الثورية السياسية التي جعلت السياسةَ دينَها وديدَنها؛ فهم أبعد ما يكونون عن تعاليم الدين وأقربُ إلى ألاعيبِ السياسةِ والإفك والعدوان.
والغريب في الأمر أن هذه الاتهامات تزامنت مع الحملة الإعلامية الشرسة التي تقودها بعض دول الكفر ضد دولة التوحيد، وتظهرها بأنها رأس الإرهاب ومنبع التطرف؛ ولكن من نظر في التاريخ عرف أن أسلاف هذا الحاقد، الذين شرب من منهلهم الكدر؛ ومستنقعهم الضحل؛ كانوا كلما قام الكفار على دعوة التوحيد آزروهم وزينوا لهم باطِلَهم؛ فليس غريباً أن يأخذ هذا وأمثالُه ميراثَ أصحابه السابقين ؛ وليس غريباً أن يكتم الحاقد حقده وبغضه حتى إذا جاءته الفرصة أظهر ما في مكنونه؛ كما قيل :
إن العدوَّ وإن أبدى مسالمةً *** إذا رأى منك يوماً غرةً وثبا
وفي هذا عبرةٌ للمعتبرين، وأصحاب النوايا السليمة؛ حتى لا يغتروا بالأدعياء الذين يتحينون الفرص للتهجم عليهم، وإن كانت القضيةُ مسألة كفرٍ وإسلام؛ فالحاقد أعمى؛ وحين تسنح له الفرصة؛ لا ينظر إلى شيء سوى أن يشفي حقده؛ مهما كانت النتائج.
فنسأل الله أن يجنبنا كيدَ الأدعياءِ والحاقدين وأن يوفقنا للحق الواضح المبين؛ واتباع سنة سيد المرسلين؛ وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد ؛ وعلى آله وصحبه .
الحمد لله منزل القرآن وملهم البيان، والصلاة والسلام على خير الأنام، ومصباح الظلام، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه الكرام أما بعد...
فيقولون إن قوة العقل في الإنسان كقوة البصر في العين، والذوق في اللسان، وبه يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان، ومن أحسن ما قيل في العقل ما قاله الأصمعي: (العقل: الإمساك عن القبيح، وقصر النفس وحبسها على الحسن).
ولست بحاجة إلى بيان أهمية العقل ومنزلته في الإسلام، فيكفي العقل أن الإسلام اعتمده مناطاً في التكليف، فالذي لا يعقل تسقط عنه شرائع الإسلام.
ومن تأمل القرآن الكريم وجده يخاطب العقل بكثرة،ومن ذلك ما ذكره الله – عز وجل – في سورة المؤمنون حيث قال مخاطباً العقول: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (84) فيأتي بعدها هذا الجواب المعقوب بحثهم على التذكر والتفكر: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(85) وأيضاَ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (87).
ثم تنساب الآيات بعدها مخاطبة العقل عارضة عليه الحقائق الربانية التي تدركها العقول ولا يكون منهم إلا أن يجيبوا ببداهة العقول {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}.
مثل تلك الآيات أيضاً ما ورد في سورة النمل من بداية آية (59 ) حيث يخاطب الله العقول مذكراً لها بآياته وبدائع صنعه وفي نهاية كل آية يأتي هذا الاستفهام {أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}.
هذه الآيات ومثلها الكثير في كتاب الله – عز وجل – تخاطب عقل الإنسان وتحثه على التفكير التام والعميق فيما هو فيها من توجهات واهتمامات... إلخ
فهذه الآيات ما نزلت بهذا الأسلوب من فراغ، كلا، فلله الحكمة البالغة.. وهكذا القرآن يخاطب العقل والفكر والروح والعواطف، فيؤثر فيها أبلغ التأثير وأعمقه، وكذلك السنة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأتم سلام.
وتأملوا معي: إبراهيم – عليه السلام – وهو يخاطب عقول قومه عندما حطم أصنامهم كما في سورة الأنبياء.
وكذلك عندما يخاطب الذي حاجه في ربه كما في سورة البقرة، وكذلك ما ورد في سورة الأنعام عندما رأى الكوكب. يخاطبهم ويحاجهم ويستثير أفكارهم ليقرر فيهم عقيدة التوحيد لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وتأملوا كذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما عاتب خالد بن الوليد – رضي الله عنه – عن تأخره في الإسلام إذ أن مثله رجل داهية مفكر عاقل لا ينبغي لمثله أن يغفل عن هذا الدين.
عندما دخل الرسول- صلى الله عليه وسلم – مكة في عمرة القضاء فسأل الوليد عن أخيه خالد، فقال: (أين خالد؟)... فقال الوليد: (يأتي به الله ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم - (ما مثله يجهل الإسلام، ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره) وضد هذا الموقف ما ورد في قصة الطفيل بن عمرو الدوسي، رجل عرف أنه لديه فكر وعقل فلم يكن أسيراً لأفكار قريش وشبهاتهم التي حشوه بها، بل قرر أن يخوض بنفسه غمار التجربة فلديه عقل وتفكير مستقل عن قريش، وفعلاً هداه الله إلى الإسلام.
وتأملوا كذلك ما قَالَه اَلنَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم ) لِحُصَيْنٍ ((كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ؟ قَالَ سَبْعَةً، سِتَّةً فِي اَلْأَرْضِ،وَوَاحِدًا فِي اَلسَّمَاءِ، قَالَ مَنْ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ،قَالَ فَاتْرُكْ اَلسِّتَّةَ،وَاعْبُدْ اَلَّذِي فِي اَلسَّمَاءِ، وَأَنَا أُعَلِّمُكَ دَعْوَتَيْنِ)) فَأَسْلَمَ، وَعَلَّمَهُ اَلنَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَنْ يَقُولَ ((اَللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي)).
بعد هذا العرض الموجز عن مكانة العقل وبعض النصوص الشرعية التي وردت فيه وبعض المواقف التي خوطب فيها العقل، قد يسأل سائل إلى ماذا تريد أن تصل؟؟؟ وما هي النتائج التي ستذكرها بعد هذه المقدمة؟؟؟
أقول ومن الله أستمد القبول، ما عرضته في المقدمة ماهو إلا مدخل لقضايا مهمة حول مسألة الفكر والتفكير الذي هو نابع من العقل.
وسأجعل هذه النقاط على طريقة تأملات مستنبطة من النصوص التي ذكرتها في مقدمة الموضوع، فأقول:
أولاً/ إن أول ما ينبغي أن يشغل المرء فيه فكره وعقله هو الغاية من وجوده في الأرض والتي هي عبادة الله - عز وجل – واتباع شرعه، فيفكر في أمره وأنه لم يخلق عبثاً ولم يترك سدى ويتأمل في آيات الله عز وجل وبدائع صنعه، ولست بهذا أعني أن ذلك أول واجب على المكلف كما يقرر أهل الكلام من المعتزلة ومن نحى نحوهم، بل أول واجب هو الإيمان بالله – عز وجل – وإنما أتكلم فقط عن ضرورة التفكر في هذا الجانب وأهميته.
ثانياً/ إن أفكار المرء المسلم وتطلعاته لابد أن تنطلق من توحيد الله – عز وجل – ونشر دينه في الآفاق وهكذا، إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – في دعوته، انطلق بأسلوب فكري مقرراً العقيدة الإسلامية، ومفنداً لشبهات القوم، وراداَ عليها وداحضاً لها، وهكذا لابد أن يكون (مفكرو) زماننا إن صح هذا اللفظ، لا بد أن ينطلقوا من هذا المبدأ في توجهاتهم وأفكارهم، فلابد أن تخدم قضاياهم وأطروحاتهم وأفكارهم هذا الدين ودحض كل ما يعرض له من شبهات وأهواء.
ثالثاً/ إن الإنسان الذي رزقه الله عقلاً وفكراً ثاقباً لا يحسن به بأي حال من الأحوال، أن يبقى بعيداً عن واقع أمته وعن واقع الدعوة إلى الإسلام وما يعرض له من شبهات وصراعات وتدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، بل لا يحسن به ألا يكون له دور واضح ومؤثر في هذا الواقع الذي يعيش فيه.
إذا عرفت هذا فتأمل معي حال بعض أهل زماننا – وما أكثرهم – من بعد عن واقع الإسلام وما يتعرض له، وكأنهم في كوكب آخر لا يحيطون ولا يدركون بل لا يفقهون واقع بيوتهم فضلاً عن واقع أمتهم، بل ربما لو سألته: ماذا نعني بفقه الواقع؟؟ ما معالمه؟؟ ما ضوابطه؟؟ ما أهميته؟؟ ربما لن يجيبك.
رابعاً/ إن البشر ليسوا معصومين من الخطأ والنسيان والزلل، فهذا أمر طبيعي لا مناص منه، وما دام البشر بهذه الصورة، فأفكارهم كذلك من باب أولى، فأفكارهم التي لا تستند إلى دليل – شرعي أو عقلي ثبتَ بالتجربة من النظريات العلمية التي ثبتت – إنما هي أفكار بشرية من اسمها قابلة للأخذ والرد، قابلة للمدح والنقد، بل قابلة للعمل بها وتبنيها إذا ثبتت فاعليتها، ولتركها ونبذها والتحذير منها إذا ثبت ضررها وضلالها، والأمر كما قيل: (خذ ما صفى ودع ما كدر )، وقد فهم هذا الأمر جيداً الطفيل بن عمرو الدوسي – رضي الله عنه – عندما فكر في أمر قريش وما بثوه من أفكار خاطئة عن الإسلام وعن النبي – صلى الله عليه وسلم – فتركه جانباً وذهب إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وعندما أخذ الفكرة الصحيحة عن هذا الدين كانت النتيجة أن هداه الله وهدى معه قومه.
بقي أن أقول: ليس كل الناس سيتصرفون كالطفيل – رضي الله عنه – بل لابد من عمل فاعل للعلماء والدعاة وأهل الفكر لبيان صورة الإسلام الصحيحة ودرء الشبهات المثارة حوله بكل وسيلة ممكنة من صحافة وإعلام وتعليم... إلخ. حتى تنتشر صورة الإسلام الناصعة الصحيحة ويندحض الشر وأهله.
خامساً/ من الصعب أن نحصر الفكر في مجال معين، أو أن نحدد له مساراً واحداً..! لماذا؟
لأنه فكر بشري، والبشر يختلفون ويتمايزون وتتفاوت اهتماماتهم وفقاً لتفاوت عقولهم، ولهذا فمن الصعب تحديد الفكر البشري الغير السوي، وإلا فالفكر السوي المستقيم محدد مؤصل فهو فكر ينطلق من مراعاة الكتاب والسنة ويخضع العقل لهما فهما حاكمان عليه وهو خاضع لهما فلا تعارض ولا مصادمة بين الشرع والعقل.
وتأمل معي: ما خطه يراع الإمام أبو القاسم الأصفهاني – رحمه الله – في كتابه القيم (الحجة في بيان المحجة)، وأنقله لك بطولة:
(مما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق: أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم وأزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، وفعلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلْ. بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلبٍ واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟!)
ثم قال رحمه الله عن أهل الضلال: (وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعاً وأحزاباً لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة...) أ.هـ (الحجة في بيان المجة لأبي القاسم الأصفهاني 2/224-228).
سادساً/ على الإنسان ألا يغتر بفكره، ولا يظن أن ما وصل إليه هو الكمال ولا شيء بعد ذلك، فربما تكون العجوز في بيتها أفضل فكراً وأصوب مما أدى إليه فكرك، ومن تأمل حل أهل الكلام وجد ذلك فرغم ما شغلوا الناس به من أفكارهم وأهوائهم إلا أن خاتمة حياة بعضهم كانت التبرؤ من تلك الأفكار، ومن ذلك: ما ذكره الجويني إمام الحرمين: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً..)
وقال بعضهم:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها *** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر *** على ذقن أو قارعا سن نادم
وقال آخر:
نهاية إقدام العقول عقـــال *** وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وغاية دنيانا أذى ووبــال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فياليت من اغتر بعقله فأراد تطويع النصوص له وقدم أفكاره على الدليل فجعلها حاكمة عليه وهو خاضع لها إن وافقها ومجنب إن خالفها، ياليتهم يعون هذا الكلام..
وما أحسن ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله في (الاعتصام 2/322): (فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه، وقتله علمه، لايأتي عليه الزمان، إلا وقد عقل فيه مالم يكن عقل، وأدرك من علمه مالم يكن أدرك قبل ذلك... ).
وبعد هذا التطواف وهذه التأملات بقي أن أقول إنها أفكار وتأملات سطرتها، فإن أصبت فيها فلله الحمد ومنه المنة والفضل، وإن أخطأت فما أحوجني لمقوم مبصر لي وله مني دعوة منجزه بأن يجزيه الله خير الجزاء، والله اعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .